لولا المناخ المنتشر في أوروبا في هذه الفترة تجاه كل ما يتصل بالجاليات المسلمة التي تعيش في القارة، وبثقافتها وتقاليدها وطرق عيشها، لما كان ممكناً لقرار سخيف مثل قرار منع «البوركيني» على شواطئ بعض المدن الفرنسية أن يرى النور، حتى بات يخيّل لمن يتابع الانشغال بهذا الزيّ البحري أن مصير الجمهورية الفرنسية معلّق على ارتدائه أو خلعه!
طبعاً، يمكن لمن ينتقدون هذا القرار أن يتحدثوا عن عنصرية كامنة في المجتمع الفرنسي، تخفي دعوة كل من يقيم على الأرض الفرنسية أن يتشبّه بأبنائها أو يرحل عنها. غير أن الواقع أنه يصعب عزل المناخ الذي ينتشر في فرنسا وفي غيرها من الدول الأوروبية عن العمليات الإرهابية التي تُرتكب في مدن القارة، ومن بينها المجزرة التي حصدت 80 شخصاً على الجادة البحرية في مدينة نيس، غير بعيد عن الشاطئ حيث فُرض حظر ارتداء «البوركيني»، وهي عمليات يرتكبها مجرمون، وتؤدي جرائمهم إلى توفير الذرائع لعنصريين وحاقدين، لإفراغ ما في نفوسهم ضد الإسلام، بالإضافة إلى نتائجها السلبية على فرص التعايش التي يحتاج إليها العرب والمسلمون، كي يتمكنوا من ممارسة حياتهم الطبيعية، مع أقل قدر من تدخل المؤسسات والحكومة والمجتمع، في أسلوب حياتهم.
ولأن الغرائز تتحكم بردود فعل البشر وتسبق عقولهم في معظم الأحيان، انتشر هذا المناخ المعادي للإسلام، تحت ستار الخوف من الإرهاب، وتحول مادة خصبة للاستغلال والانتهازية السياسية. وهكذا أصبحت قطعة من القماش تغطي جسد سيدة مسلمة على شاطئ البحر، مناسبة لإطلاق جدل سياسي لا نهاية له في فرنسا. دخلت إلى مجال الصراع الحزبي، وإلى النقاش المفتوح حول مفهوم العلمانية وحدودها، وأين تقف صلاحية الدولة في رسم ما يستطيع الناس أو لا يستطيعون لبسه، وأين تنتهي حرية الشخص في ارتداء ما يريد وما يجده مناسباً لثقافته أو للطريقة التي يريد أن يظهر بها أمام الناس.
سياسيون كثيرون في فرنسا وجدوها فرصة مناسبة للقفز فوق هذا الجدل والإفادة منه. ولأن الموسم الفرنسي هو موسم انتخابات، أسرع الرئيس السابق نيكولا ساركوزي إلى دخول الحلبة، متوعداً بتعديل الدستور لحظر «البوركيني»، في محاولة رخيصة لمنافسة زعيمة «الجبهة الوطنية» مارين لوبن، على حصد الأصوات اليمينية، التي لم تكن في حاجة إلى «بوركيني» لإظهار عنصريتها، وجاءتها الفرصة المناسبة من خلال ردود فعل أكثرية المجتمع الفرنسي على موجات الإرهاب الأخيرة، ولم تعد ردود الفعل هذه تميز بين سيدة تخرج من بيتها وتذهب إلى البحر للسباحة، ومجرم إرهابي يقتحم حفلاً موسيقياً لاصطياد رواده.
لم يتوقف الأمر عند ساركوزي والتيارات اليمينية، بل انضمت إليه مجموعة اشتراكية داخل حزب الرئيس فرنسوا هولاند، في مقدمها رئيس الحكومة مانويل فالس، الذي وجد أن «البوركيني» تعبير عن «مشروع سياسي لا يتناسب مع قيم الجمهورية الفرنسية»، على حد قوله، وذلك على رغم أن «مجلس الدولة»، وهو المحكمة العليا في فرنسا، اعتبر أن حظر هذا اللباس ينتهك الحريات الأساسية التي يضمنها الدستور. وبدل أن تكون وظيفة رئيس الحكومة الدفاع عن قرارات القضاء وضمان تطبيقها، لم يتردد فالس، في تصريحات نقلتها صحيفة «الموند» الفرنسية، في القول إن قرار المحكمة «لا يقفل النقاش» في شأن «البوركيني».
لا مصلحة لفرنسا في أن تغرق في هذا النقاش الذي يخدم في النهاية من يستفيدون من تعميق الشرخ الثقافي والديني داخل المجتمع الفرنسي. هذه ليست فرنسا «الحرية والأخوة والمساواة» وسائر القيم الإنسانية التي نعرفها. فعندما تسير بلاد فولتير على خطى «داعش» و»طالبان» في فرض أزياء الناس وطرق أكلهم ومواد شربهم، تفقد كثيراً من ميزاتها التي حرصت أعلى محكمة في فرنسا على الدفاع عنها وحمايتها... فيما لا يتردد السياسيون في الإطاحة بها.