كنا مجموعة من الأصدقاء في الجامعة الأميركية في بيروت وتخرجنا معاً وعملنا في «الديلي ستار» و»الحياة». باسم كان من أسرة مهاجرة ثرية، وبعد سنتين أو نحوهما في العمل قرر أن يتوجه إلى «البزنس» وكان مشروعه بناء مصنع ينتج «ديسكات» للتسجيل. سُرِقت بعض المعدات المستورَدة من ميناء بيروت، وباسم غيّر المشروع إلى صنع لعب الأطفال.
هو قدَّم لي قائمة بما دفع من «برطيل»، أي رشوة، في كل خطوة على طريق الحصول على رخصة المعمل، والرسوم على المعدات، ونشرت بعض التفاصيل في مقال قديم لي من دون أسماء خشية أن أصبح «خبراً» آخر.
في الوقت نفسه تقريباً أو سنة 1966، طلع الأخوان رحباني بمسرحية «فخر الدين» وحضرتها مرتين فأذكر منها أغنية، أو طقطوقة، أداها صلاح تيزاني (أبو سليم الطبل):
برطيل، برطيل، أمان الله، برطيل
كل الناس يا بابا هيدا كلّو في برطيل
الكبير والصغير الطويل والقصير كلّو برطيل
الكبير برطيل دشش، والصغير اكّي بير (هذا من لعب الطاولة والدشش 6/6 والاكي بير 1/2).
ما سبق عمره أربعون سنة أو أكثر ولبنان كان في وضع طيب سياحة وتجارة وزراعة وصادرات، والآن البلد في أسوأ حال ما يعني أن الرشوة زادت أضعافاً مضاعفة.
اليوم أعود إلى موضوع الرشوة، أو «البرطيل» بالعامية، بعد جلسات عدة مع صديق جاء لقضاء بعض الصيف في اوروبا وحكى لي حكايات مماثلة ذكرتني بمثل شعبي لبناني أعدّله ليصبح صالحاً للنشر هو: كل عمرك يا زبيبة فيكي هالعودِة.
صديقي باسم انتهت معاملاته عند محافظ جبل لبنان، ومدير مكتبه اقترح على الصديق أن يهدي المحافظ جهازي تلفزيون من أكبر حجم متاح في تلك الأيام والصديق فعل، والمعاملة وُقِّعَت. أكاد أكون واثقاً أن المحافظ كان بريئاً فقد كانت له سمعة طيبة مستحَقَة، وإن الرشوة ذهبت الى مدير مكتبه.
صديقي حكى لي الأسبوع الماضي عن معاملة لقريب لنا دفع في كل مرحلة لها من 20 دولاراً حتى 80 ألف دولار كانت ثمن التوقيع الأخير. هو حاول أن يوسِّط نائباً، ووزيراً سابقاً، وكان الجواب كل مرة 80 ألف دولار.
قال لي صديقي إن جاره له ولد شاب يدرس في جامعة اميركية، وهو أرسل الى والده سيارة جديدة وصلت من دون أي أوراق رسمية مرافقة (إذا استعمِلت قليلاً تصبح «مستعملة» وتقلّ قيمة الضريبة عليها). الوالد استعان بمخلص معاملات قال له: لشو العجلة. سنؤمن كل شيء. المعاملة مرت على طاولات في دوائر عدة. كل توقيع كلف ما بين 20 دولاراً و40 دولاراً. مع دفعة في النهاية للرجل الذي ساعده.
زحام المرور الحقيقي ليس في مانهاتن وإنما في الطريق بين بيروت وجونيه. وصديق ثري سيارته فخمة مع نمرة من ثلاثة أرقام، أوقفه شرطي على دراجة نارية وقال له إنه يبدو مستعجلاً. قال الصديق هو فعلاً كذلك. الشرطي قاد دراجته أمام سيارة الصديق وصوت «زمامير» الإنذار يدوي منها، ثم توقف عند محل لبيع النظارات وقال إنه في حاجة إلى نظارات لحماية عينيه. الصديق دفع له 50 دولاراً ثمن إفساحه الطريق له على امتداد كيلومترين.
حالات التسمم في لبنان لا تنقطع ومن أهم أسبابها أن المعلبات تنتهي مدة صلاحيتها، فلا يوقف بيعها وإنما تؤخذ الى مستودع حيث يُمسَح تاريخ انتهاء مدة الصلاحية بالقطن والكحول، ويُكتب عليها تاريخ جديد.
وسط هذا الركام أسجل نقطة ناصعة هي أن معاملات الأمن العام اللبناني تخلو من أي رشوة. ملأت طلب جواز سفر جديد وحصلت على الجواز في اليوم التالي، فلم أدفع سوى ثمن طوابع البريد. شكراً للأمن العام.