إنه كتاب (في تاريخ العرب الحديث وجهاد الأندلسيين) للدكتور رأفت الغنيمي الشيخ أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة الزقازيق بمصر، يقعُ في أربعمئة وخمس صفحات، ويتحدث عن ظروف دخول العثمانيين للبلاد العربية وعن الحركات الاستقلالية السياسية عن الخلافة العثمانية في هذه البلاد وعن الحركات الأخرى الدعوية فيها، وعن خروج المسلمين من الأندلس ومقاومة العرب البحرية في شمال إفريقيا للاستعمار الغربي بمختلف جنسياته ومقاومة إخوانهم لمثل هذا الاستعمار في منطقة الخليج وعلاقة كل ذلك بالدولة العثمانية، وأخيراً عن فكرة الجامعة الإسلامية.
وصاحب الكتاب بلا شك ذو علم واطّلاعٍ فيما يكتب أو يذهب إليه من آراء وذو روح إسلامية واضحة، إلا أن فيه صَعَراً عن العهد العثماني ورجاله، وشيئاً من عدم الدقة في أحكامه عليه وتقدير الظروف التي كانت تمر بها الدولة العثمانية وما يُدبّر لها من مؤامرات، كما أن فيه تأييداً غير قليل للشغب عليها، ولاسيما إذا أتى من العنصر العربي، مما قد يقدح بصفاء انتمائه الإسلامي.
ومن ذلك أن المؤلف يُطلق على دخول العثمانيين للبلاد العربية كلمة الزحف التي قد تعني الاقتحام للسيطرة ليس إلاّ، ولا يسمِّيه بالاسم الأنسب وهو الفتح، ولاسيما في ظروف كانت تمر بها هذه البلاد وأشار إليها هو نفسه من ضعف حكم المماليك فيها بحيث عجزوا عن ردّ غارات البرتغاليين الصليبيين عليها والمتمثل في انهزامهم أمامهم في معركة ديو البحرية عام 1509م. ومنها غزو الصفويين للعراق سنة 1508م واحتلالهم له ومحاولتهم الزحف على باقي بلاد العرب للسيطرة عليها، ومن ثم تشييعها بالقهر وقوة السلاح. ومنها كذلك استفحال قوة فرسان القديس يوحنا في جزيرة رودس وتهديدهم للمحيط العربي. وهم من بقايا الحملات الصليبية التي أخذت تتمركز في هذه الجزيرة، وتتحين الفرص لاستئناف تلك الحرب الصليبية الشريرة.
وإزاء ذلك، ما كان من العثمانيين بقيادة السلطان سليم، إلا أنْ ساق قواته إلى بلاد العرب لينتشلها من وضع المماليك الواهنين، ويحميها من زحف الصفويين الحاقدين، ويكفّ عنها خطر فرسان القديس المتربصين بها الدوائر، فيطردهم من رودس إلى جزيرة مالطا ويُضعف مُنّتهم، ويبني قوة بحرية قادرة على ردعهم هم وغيرهم من قوات صليبية بحرية بدأت تزحف على بلاد العرب والمسلمين في الشرق والغرب على السواء، إضافة إلى أن العرب عامة رحّبوا بقدوم العثمانيين وأن شريف مكة بالذات سلّم السلطان سليم مفاتيح الحرمين الشريفين دلالة على ذلك.
ومما يشير إلى انحراف المؤلف عن العثمانيين، أنه يَعُدُّ مجرد ظهورهم في منطقة الأناضول سلبية من السلبيات السياسية، ولاسيما تُجاه الواقع العربي، إذ أن هذا عنده سبب من أسباب أضعاف هذا الواقع، ولا يتردد أن ينعت الحكم العثماني ورجاله بالاستبداد والمستبدين، ويرى وجوب الشغب السياسي عليه وخاصة إذا أتى من العرب ويسمّي كل ذلك حركات استقلالية. فبينما يذكر بشيء من الزهو حركة ظاهر العمر العربي الشاغبة على الدولة العثمانية، يقرر بروح من اللمز أن معظم هذه الحركات الاستقلالية الشاغبة أتت من أجناس أعجمية. والحقيقة تقول إن هذه الحركات الشاغبة كلها عربية كانت أم غير عربية، حركات تمرّدٍ وانفصال تُوهن جسم الدولة العثمانية أمام الدول الصليبية التي كانت تتوقّد غيظاً على هذه الخلافة الإسلامية الضاربة.
ولا بد من لفت النظر هنا أن ظاهر العمر هذا العربي الذي يمتدح المؤلف حركته ضد دولة الخلافة العثمانية، كان – من أجل الحفاظ على سلطته – يقوم بأعمال مما يذكره المؤلف ذاته جِدِّ شائنة، من تعاونه مع أعداء الإسلام الساعين بكل قوتهم لتحطيم وحدة الأمة من الروس والفرنسيين وفرسان القديس يوحنا. فقد سمح للروس لقاء دعمهم له ضد العثمانين أن يحتلوا بيروت ويضربوها بالمدافع، ويرفعوا أعلامهم فوق أبراجها وصورة إمبرطورتهم كاترينا فوق بابها الرئيس، ويدفع لهم ستمئة صرّة من المال، عِلاوة على دعمه للانفصاليين الدروز من آل الشهابي في لبنان في تمردهم على العثمانيين، مع أن القبائل العربية نفسها كانت تناوئه وكذلك أولاده.
ومما تعرض له المؤلف، حديثه عن الحركات الدعوية الإسلامية الثلاث الشهيرة : الوهابية والسنوسية والمهدية. وحديثه هنا مفصّل ومعمّق بشكل عام. غير أنني شعرت أنه يُجامل الحركة الوهابية، مع أنه يأخذ عليها عدم الأخذ بأسلوب التدرج في تطبيق المبادئ والأحكام، وأخذها بأسلوب القتال لتطويع الأتباع، مما جلب عليها سخط الكثير من القبائل والعلماء والدول. أما السنوسية فقد بدت مما كتبه عنها – وهي كذلك في الواقع – حركة دعوية رائدة لتأكيدها على التربية الإيمانية، وبناء العلاقات الاجتماعية الوطيدة بين القبائل والتخطيط للاكتفاء الذاتي في محيط الحركة في زواياها المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد، وأخذها بالجهاد وسيلة لحماية كيانها. مما كان من نتائجه الإيجابية أنْ سرت بين القبائل روح الإخوة الإسلامية بعد تاريخ طويل من النزاعات، ونشر الدعوة في مجاهل إفريقيا، وسياستها السلمية مع الدولة العثمانية وعدم السعي للانفصال عنها. ومن الجدير بالذكر أنه كان لخريجي زواياها أكبر الأثر في محاربة الاستعمار الطلياني. مما تمثّل بحركة عمر المختار البطولية، رحمه الله.
أما الحركة المهدية، فقد كانت حركة مناهضة للوجود الخارجي في السودان الإنجليزي والمصري والعثماني. وكان أكثر ما اهتمت به التدريب على القتال لمحاربة الطارئين على البلاد ممن أشرت إليهم. أما تركيزها على التربية الدينية، فقد كان نزراً. وقد تشدّدت في النظر إلى الآخرين فعدت كل من لا يوافقها على مبادئها حلال الدَّم كافراً وماله غنيمة !! وقد ادّعى صاحبها محمد أحمد أنه المهدي المنتظر. ولَمّا مات وخلفه نائبه عبد الله التعايشي ضَعُفَت الحركة وتمت السيطرة للإنجليز على السودان بأكمله. ولِما تجاوزته الحركة من مفاهيم إسلامية سليمة واشتطاطها في الاعتداد بنفسها على لسان صاحبها، رفض السنوسي التعاون معها ولم يعتبر صاحبها إلا رجلاً مخادعاً وكاذباً، كما نعته الخليفة العثماني ربما لتمرده بالشقي.
وإنني في سياق تقديم هذه الحركات الثلاث أرى أن أكثرها خدمة للإسلام الدعوة السنوسية. وإذا كنت لا أعدّها حركة انفصالية عن دولة الخلافة، فإنني أعد الحركتين الأخريين حركتي تمرّد وانفصال فَتَّتا في عضدها ولا سيما الوهابية، وإن كانت كل واحدة منها لا تخلو من إيجابيات من بث روح الوعي والتعليم ومحاربة البدع والثورة على الظلم. أما حركات الانفصال عن دولة الخلافة التي لاشك فيها، فحركات : الدروز المعنيين والشهابيين وأحمد باشا الجزار وعلي بيك الكبير ومحمد علي وظاهر العمر، إذ كانت كلها خنجراً في خاصرة دولة الخلافة. وأما بقية الزعامات في البلاد العربية الأخرى : كالمماليك وأسرة حسن باشا في العراف وآل العظم في دمشق والقرمانليين في ليبيا والأسرة الحسينية في تونس فقد كانت كلها موالية للدولة العثمانية.
ويبقى من موضوعات الكتاب بعد هذا، الحديثُ عن خروج المسلمين من الأندلس ومن بعدُ تجدد الصراع في البحر المتوسط بين العرب من الأندلسيين وإخوانهم في شمالي إفريقيا بدولها الأربع وبين القوى الاستعمارية المختلفة وكذلك الصراع بين سُفُن قبائل الخليج العربي وحركة المستعمرين البحرية ولاسيما الإنجليز ومن ثم الحديث عن الجامعة الإسلامية. فبعد أن خرج المسلمون من الأندلس عام 1492م تجددت الحرب بينهم هم وإخوانهم عرب شمال إفريقيا من جهة وبين الغزاة الأوروبيين في بحر الشمال الإفريقي من جهة أخرى. وكان للعرب في كل دول هذا الشمال ممن ذكرت دور معروف ومبرور في هذا الشأن، تساعدهم في ذلك الدولة العثمانية التي دعمت بطل البحر الجزائري خير الدين بربروسا، وأعدت لهذا الصدام إضافة إلى ذلك قواتها البحرية الضاربة بقيادة سنان باشا. أما في الخليج العربي فأشهر القبائل التي كانت سفنها تهاجم السفن الاستعمارية هناك فسفن القواسم في رأس الخيمة خاصة، وإن كان الخليج كله قد خضع في النهاية للاستعمار الإنجليزي.
أما فكرة الجامعة الإسلامية، فقد ظهرت منذ أن بدا الضعف واضحاً في كيان الخلافة العثمانية أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، هذه الفكرة التي كانت تدعو لتوحيد الأمة الإسلامية وتدعيم كيانها المتمثل بالخلافة العثمانية، وذلك بنشر الوعي في أوساط شعوبها والتمرّد على الجور والاستبداد والدعوة إلى الحرية والعدالة للخروج مما وصلت إليه هذه الشعوب من ضعف وهوان. وكان من رواد هذه الدعوة أربع شخصيات هي : جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا والخليفة العثماني عبد الحميد الثاني. غير أن هذه الدعوة لم يكتب لها النجاح المطلوب لعدم تفرغ أصحابها لها واعتمادهم على الكلمة دون التركيز على التربية المتّئدة والتنظيم الدقيق والمتابعة المتواصلة والتدرج في أساليب العمل، اضافة إلى شبهات رافقت دعاتها الثلاثة الأُوَل، من انخداع الأفغاني بدستور مدحت باشا اليهودي الماسوني، ولين محمد عبده مع الإنجليز وميل رشيد رضا عن الخليفة. وأما الرابع وهو السلطان عبد الحميد فقد تكالبت عليه الدول الكافرة وتكاثرت عليه المؤامرات من الداخل والخارج حتى عُزِل، وغُزِيَتْ تركيا بمؤامرة صليبية يهودية فتفتَّتَت وتفتَّت معها وحدة العرب...