أخبار البلد - رفعت الاقلام، وجفت الصحف، وانتهت الامور، ورجعت حليمة الى عادتها القديمة، ولم يعد في الامكان ابدع مما كان.
الى سابق عهدها الرتيب، وسقفها الخفيض، ونشاطها المعتاد منذ جملة اعوام.. عادت الحركة الشعبية والنخبوية في بلادنا، بعد حراك نسبي لم يعمر طويلاً، ونضال جزئي لم يتسع ليشمل الملايين او حتى عشرات الالوف من المشاركين في سوانح المظاهرات والمسيرات والاعتصامات التي بقيت نخبوية او فئوية او جهوية بعيدة كل البعد عن الانصهار الجماعي العام، ومحرومة لاسباب شتى من القيادة الوطنية الموحدة والمركزية.
عادت الاحزاب السياسية الى بياناتها الورقية، والهيئات الشبابية الى انشغالاتها الحياتية، والنقابات المهنية الى نشاطاتها التقليدية، والجماعات المطلبية (اطباء ومعلمون وعمال وطلبة) الى اهتماماتها التنظيمية والمعاشية، والحركات المناطقية (معان والكرك وذيبان واربد) الى سابق تحركاتها الموسمية المتباعدة، فيما خلدت المخيمات الى سباتها القديم، بعد ان كانت قد استيقظت قليلاً، وهمّت بالمشاركة في الحراك الوطني المنفعل بالثورتين المصرية والتونسية.
منذ بدايات هذا العام، جرى سباق خفي بين شرائح وقطاعات شعبية متنوعة بقيادة الحركة الاسلامية، وبين دوائر وجهات حكومية وامنية ونيابية داخل اروقة الحكم، حول مستقبل الاوضاع العامة، ومنسوب الاصلاحات السياسية والتحولات الديموقراطية في بلادنا.. فبينما تطلع الفريق الشعبي الى حياة دستورية حقيقة، ونقلة ديموقراطية واسعة وراسخة وغير قابلة للانتكاس والارتكاس، عمد الفريق الرسمي الى عكس ذلك تماماً، وجهد في احتواء الحراك الشعبي، وتقزيم المطالب الاصلاحية، وتقديم بعض التنازلات الشكلية والهامشية، مثل اقالة حكومة الرفاعي، وتشكيل لجنة الحوار الوطني، ثم لجنة تعديل الدستور، ليس لغرض امتصاص الحالة الثورية الاردنية فحسب، بل لاسترضاء المحافل الدولية - الامريكية والاوروبية - ايضاً.
من فوره شمر الفريق الرسمي عن ساعد الجد، وباشر مهماته الجهنمية في تخريب الحراك الشعبي وتبديد الحالة الثورية، حيث لجأ - اولاً - الى تشويه مقاصد الحركة الاسلامية، ورجمها بالكثير من الاتهامات الشنيعة، ووضعها في نقطة التصادم مع المؤسسة العشائرية.. ثم لجأ - ثانياً - الى اعادة فصم الضمير الوطني، وتخويف هذا الجانب الديموغرافي من الجانب الآخر، بدعوى ان التناقض الاساس قائم بين هذين الجانبين الشعبيين، وليس بينهما معاً وبين الدوائر الحاكمة.. ثم لجأ - ثالثاً - الى ما استجد على هامش الثورات العربية مؤخراً، من اعمال البلطجة والزعرنة والتشبيح، ناهيك عن التوظيف المغرض والمزايد لمفردات الولاء والانتماء.. الخ.
على دوار وزارة الداخلية ارتسمت علامة التحول والانعطاف، فقد انتهت موجة المد الثوري والحراك الشعبي، وتسلمت القوى الامنية والحكومية دفة الهجوم وزمام المبادرة.. تبددت اعتصامات شباب 42 اذار، وانكمشت الحركة الاسلامية وترجلت عن صهوة القيادة، وانقسم الضمير الوطني وتصاعدت حدة النعرات الاقليمية، ولم يتبق في الشارع سوى الدرك والبلطجية والجماعات السلفية.
وهكذا، فقد ضاعت علينا جميعاً - الشعب والحكم - فرصة ثمينة للمصالحة الوطنية العامة، والنهوض بالبلاد سريعاً والعباد، واللحاق بركب العصر الديموقراطي، وضرب المثل للعرب جميعاً في توطيد اواصر الثقة والمودة والتلاحم والتفاهم، ليس بين سائر الاطراف الشعبية فحسب، بل بين القمة والقاعدة ايضاً.. لقد تم - باختصار - تأجيل المستقبل الاردني، وطي صفحة الاصلاح الحقيقي والتغيير الجذري ولو الى حين، ذلك لان متطلبات الحياة وضروراتها لابد ان تنتج يوماً وسائل تحقيقها.
السؤال المركب والمتشعب الذي انتصب في اذهان المراقبين والمحللين السياسيين هو .. لماذا خمدت الانتفاضة الشعبية سريعاً ودون ان تحقق اية نتائج تُذكر ؟؟ لماذا انكفأت الحركة الاسلامية فجأة، وبلعت زئيرها وهديرها، وغابت عن المشهد العام ؟؟ لماذا نجحت الدوائر الحكومية والامنية عندنا في انجاز ما لم تستطعه الدوائر المماثلة في بقية الاقطار العربية المضطربة ؟؟ بل لماذا انتعشت على انقاض انتفاضتنا المغدورة، قوى الشد العكسي، والمد السلفي والقبلي والرجعي ؟؟
الكثيرون يعتقدون ان الاردن الديموقراطي الكامل الدسم، ليس ممكناً او متاحاً في الوقت الراهن وضمن المواصفات القائمة.. ويقولون ان اقصى الممكن والمتاح هذا الاوان، هو التوصل فقط الى >حالة ديموقراطية وتصالحية وتسامحية< قد تطول او تقصر وفقاً لجملة شروط ومعطيات ومعادلات داخلية وعربية وحتى دولية، شأن ما حدث للحالة الوطنية والديموقراطية التي تجلت عام 6591 في عهد حكومة النابلسي التي لم تعمر طويلاً تحت ضغط مشروع الرئيس الامريكي ايزنهاور لملء الفراغ، ثم عام 9891 عقب انتفاضة نيسان التي انتجت انتخابات نيابية حرة، وحكومة بدران التوافقية التي سرعان ما لفظت انفاسها على مذبح مؤتمر مدريد المشؤوم.
اسباب الاستعصاء الديموقراطي لدينا كثيرة ومتنوعة، بعضها داخلي يتصل بانقسام الضمير الوطني، وتدني منسوب الاستعداد للتضحية، وغلبة الهم المعاشي على الاهتمام السياسي، ومحدودية النضج الطبقي والاجتماعي والاقتصادي، وغياب الحوامل النخبوية المناضلة والقاعدة الشعبية العريضة، وهيمنة الدولة الامنية على مختلف مناحي الحياة السياسية.. وبعضها الآخر عربي يتعلق بظروف الفساد والاستبداد السائدة في الغالبية العظمى من اقطار العرب، والتي يعتبر الاردن جزءاً لا يتجزأ من منظومتها الجماعية البائسة.. وبعضها الثالث اقليمي ودولي يرتبط بحاجة الاردن الفقير والصغير الى الامن والمال، وبانتمائه الدائم والقديم الى المعسكر الغربي، وبسلامه المنقوص مع العدو الاسرائيلي.. الامر الذي يمنعه من اطلاق العنان للحريات الديموقراطية التي غالباً ما سوف تفرز قوى وطنية وقومية واسلامية معادية لكل تلك التوجهات والارتباطات.
كل الدول القوية والمستقلة والمعتبرة ترسم سياساتها الخارجية في ضوء مصالحها ومطامحها ومقدراتها وموجوداتها الداخلية، غير ان هناك دولاً ضعيفة ووظيفية تشذ عن هذه القاعدة المعروفة، وتعكس طرفي هذه المعادلة التقليدية، حيث ترهن سياساتها الداخلية لخدمة احتياجاتها وارتباطاتها وتحالفاتها الخارجية، وتذعن لاملاءات الخارج ولو على حساب اشواق الداخل، وتفصّل الاحكام والقوانين التي يرضى عنها الاخرون وراء الحدود، وليس ابناء الشعب القابعون في سويداء الوطن.. ولعل الاردن بعض هذه الدول !!