لي ذكريات جميلة عشت فيها أحلى سنوات عمري , في عاصمة دولة عظمى , موسكو , التي يعني اسمها , العظمة والفخامة , والاتسّاع والقوّة , والمنعة والجمال , كلّ ما فيها يعبّر عن عاصمة عزيزة , في بلد عزيز , الداخل اليها يحس بالاطمئنان والحنو , وكأنها مكان يسعد فيه الانسان الشقي , ويريح ذو الاعصاب المتوتّرة , وترفع من معنويات معدمها , مدينة ليس فيها للحزن مكان , كبيرة بثلثي مساحة لبنان , شوارع فسيحة , وحدائق غنّاء , تنظيم رائع لمبان عصرية , رخص في اسعار كلّ المواد , تموينيّة وكمالية , وبسمات من اهلها تنسيك عناء الاغتراب .
قطار للركّاب فوق الارض وقطار من تحتها, كيف لا انبهر به وانا الفتى القادم من مدينة فيها قطار يجري على سكّة حديد , لا ينقل الاّ خام الفوسفات , امّا في موسكو فالقطار حفر له تحت الارض لينقل الركاب , تنزل الى جوف بعض محطاته سبعين مترا , لترى امامك لوحات فنيّة , لكبار الرسّامين , تترك في مخيّلتك اثرا لا يمحى , لعظمة من بنوا هذه المحطات , الّذين مكّنوك من السفر بأصغر قطعة نقديّة , بواسطة قطار الانفاق الذي يعمل على الكهرباء , من أوّل المدينة الى آخرها , تقرأ كتابا كاملا لتشيخوف وغوركي وايتماتوف وغيرهم , لأنّك ان لم تمسك بيدك ما تقرأه في وسائل النقل في مدن الاتحاد , فستكون غريبا بين الركّاب , كالذي يقرأ كتاب في حافلة النقل العام في بلده .
أنا دائم الاشتياق الى تلك الامكنة التي ارسم لها في مخيّلتي صورة رائعة الجمال , حفرت بأزاميل لا يمحوها الزمان , ومع أنّي أؤمن بانّ التغيير احيانا يكون لصالح الانسان , الاّ انّي أخاف ان عدت اليها أن أفقد حلاوة الذكرى للمكان , الذي لا بدّ قد غيّرته السنين ويد الانسان , مع ثقتي بأنّ شوارع وغابات موسكو قد ازدادت جمال على جمال , وأظن أن الجامعة لم تختلف وظيفتها حتى الآن , في تعليم من يرغب الدراسة فيها من شتّى بقاع العالم , وتقوية أواصر الصداقة بين الدول .