لا أدري من ورط الإخبارية السورية بالخبر الذي يقول نصه المكتوب على الشاشة: (أهالي حي الميدان يشكرون ربهم على الأمطار الشديدة التي هطلت، بينما الجزيرة ما زالت تنقل صوراً تقول إنها لمظاهرة في الميدان) فقد جعل هذا الخبر المضحك من القناة الإخبارية الوليدة التي ما زالت في طور بثها التجريبي (علكة في فم اللي بيسوى واللي ما بيسوى)، وعلى مدار الأيام التي تلت صدور هذا الخبر الفريد بعد ظهر يوم الجمعة العظيمة.
صارت هذه الأكذوبة مادة للتندر في المحطات الفضائية (المغرضة) التي نشرت صوراً حية للتظاهرة التي انطلقت من جامع الحسن، وسارت تحت جسر المتحلق الجنوبي الذي يشق حي الميدان العريق، بعد نهاية سوق (الجزماتية)، وقبل بداية سوق (أبو حبل) حيث قوبلت التظاهرة هناك بقنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي. وكان يمكن أن تكون كل هذه الجموع المندسة، قد خرجت لتشكر الله على الأمطار الشديدة، كما أرادت (الإخبارية السورية) تأويل صورها، لولا أن الهتافات الحية كانت تقول شيئاً آخر. طبعاً نظام المقاومة والممانعة بارع في مقاومة كل الحقائق... ويمكن للإخبارية السورية وشقيقاتها أن تدعي أن الصوت قد ركب على حناجر المتظاهرين الغاضبين الهاتفين لأشقائهم السوريين الذين سقطوا في مناطق مختلفة من واحة الأمن والأمان التي كانوا يمنون علينا بها، قبل أن نكتشف أن العصابات المندسة صارت تجوب البلاد 'زنقة زنقة... دار دار'؛ لولا أن هناك صوراً حية صورت المتظاهرين وهم يمزقون إحدى صور السيد الرئيس، التي تحتل جانباً مهيباً من لافتة مدرسة خالد بن الوليد في حي الميدان.
هذا المستوى الصفيق من الكذب الساذج، لم يستفز المتظاهرين هذه المرة... بل استظرفه بعضهم كما استظرف الأمريكان تصريحات وشتائم الوزير الصحاف عن العلوج والطراطير والأذناب... ولهذا كتب أحد هؤلاء المتظاهرين على صفحته على الفيسبوك ساخراً:
(والله أنا كنت مع الشباب الطيبة، رغم أني صليت بجامع زين العابدين بس كنت متوقع انو يصير دعاء للمطر، ولهذا حملت حالي ورحت باتجاه جامع الحسن وفعلا الله ما خيبني، وجدت العالم عم تهتف وكانوا متوقعين الإجابة سلفاً، ولهذا كل صور الرئيس التي كانت موجودة بالميدان قمنا بإنزالها حرصا على عدم تعرضها للأمطار).
وتوالت التعليقات والشعارات التي ألفها السوريون عن (تظاهرة الأمطار) فكتب بعضهم على صفحاتهم على موقع (الفيسبوك) هذه الشعارات التي لا أدعيها لنفسي رغم إعجابي بطرافتها:
الله الله يا جبار.. نزل علينا الأمطار!
واحد واحد واحد.. المطر والثلج واحد!
يا الله ويا قهار.. الشعب السوري بدو أمطار!
يا الله ويا عظيم.. حقق مطالبنا يا كريم!
مطر بكل الساحات.. تقضي على هالوسخات!
مطر مطر.. شي غزير.. يقضي على كل الصراصير!
مطر مطر بالميدان.. يقضي على كل خوّان!
مطر وثلج جمعية.. يأخذ كل الحرامية!
الشعب.. يريد.. إسقاط الأمطار!
طبعاً لم تبرر لنا (الأخبارية السورية) لماذا ووجهت التظاهرة بالرصاص الحي، والقنابل المسيلة للدموع، إذا كان سقف مطالبها وشعاراتها التعبير عن الشكر للخالق لأنه أرسل إليهم المطر الشديد... ولم تقل لنا لماذا شيعوا من جامع الدقاق شهيداً سقط في تلك التظاهرة، أطلق عليه بعض الشباب ساخرين: (شهيد الأمطار) فواقع الحال أن الحقيقة تستشهد كل يوم آلاف المرات على شاشة الإخبارية السورية وشقيقاتها، حتى حرّف بعضهم شعارها الذي رفعته ليصبح: (الوقائع عكس ما وقعت... والأحداث كما لم تحدث).
والآن... لو أردت أن أدافع عن الإخبارية السورية من منطلق أي حرص على الاصطفاف وراء إعلام بلدي في ظل الأزمة التي تعصف بسورية، والمؤامرة الخارجية والداخلية التي تتربص بها... هل سيحترم أي قارئ فيه ذرة عقل، أي حجة أو تبرير يمكن أن أتعب نفسي في البحث عنه كي أبرر هذا الخبر؟! من سيثق بي بعد ذلك؟! من سيصدق أنني أستحق أن تمنحني 'القدس العربي' هذه المساحة الأسبوعية كي أكتب فيها، فيما لو انزلقت إلى هذا الدرك من الكذب المضحك المبكي؟!
نعم إنه مضحك أما لماذا هو مبك أيضاً، فلأن هذا المستوى من الكذب جنون ومأساة، ولأن الملايين التي تصرف على تسويق هذا الكذب ودفع رواتب لمن يكذبون بهذا الشكل المضر بالنظام قبل أي طرف آخر، هو جنون ومأساة أيضاً؟! ولأن دم الشهداء الذي يراق في كافة أنحاء سورية، فيما الإعلام ينحدر إلى هذا المستوى هو جنون ومأساة أيضاً!
استقالة بن جدو دعماً للمقاومة والممانعة!
وأبقى مع فضائية (الخبر والمعنى) أي (الإخبارية السورية) بلا معنى... لأرى هذا الاحتفاء الشديد الذي لاقاه على شاشتها خبر استقالة الإعلامي غسان بن جدو من قناة الجزيرة، احتجاجا على ما وصفه (خروج 'الجزيرة' عن كونها وسيلة إعلام، وتحولها إلى غرفة عمليات للتحريض والتعبئة(. حسبما جاء في بيانه الذي نقلت عنه الإخبارية، وأعادت وزادت فيه وكأنها عثرت على ضالتها التي تدين هذه القناة التي هتف لها بعض السوريين في تظاهرة تضامنية في الخارج: (يا جزيرة ويا أميرة... انت والله كبيرة كبيرة)!
طبعا ليس مبعث الاستهجان هو تركيز الإخبارية السورية على هذا الخبر، في الوقت الذي يبحث فيه الإعلام السوري عن أي أصدقاء ممكنين... فمن حق أي جهة تعاني أزمة احترام خانقة كالتي يعيشها الإعلام السوري، أن تبحث عن أمثال هؤلاء، وأن تتصل بهم لتكبر فيهم نزاهتهم وحسهم القومي العالي، وانحيازهم المؤثر لنظام المقاومة والممانعة... لكن ليس من حق (الإخبارية) أن تتجاهل في اليوم ذاته، استقالة النائبين السوريين في مجلس الشعب: (ناصر الحريري) و(خليل الرفاعي) احتجاجا على المجازر التي ترتكب بحق أهلهم في درعا، والتي كان آخرها، ليس أثناء خروجهم في تظاهرة سلمية (مندسة) وحسب، بل أثناء خروجهم لتشييع شهدائهم... وليس من حق (الإخبارية) إن كانت تريد أن يثق بها المواطن السوري الذي تتوجه إليه أولاً، أن تتجاهل استقالة مفتي درعا ثم استقالة يمان مقداد عضو مجلس محافظة درعا احتجاجاً على هذا الإصرار المدمّر على استخدام الحل الأمني لمعالجة الأزمة وترهيب الناس وثنيهم عن الخروج للتظاهر.... فلماذا استقالة الإعلامي التونسي غسان بن جدو من قناة (الجزيرة) القطرية، أمر يهم السوريين، واستقالة عضوين من أعضاء مجلس الشعب السوري، ومفتى مدينة مشتعلة بالأحداث وعضو في مجلس محافظتها ليس مهماً؟ أين أضحت المصداقية والحيادية إذا كان هذا هو معيارها؟! وأين إعلامنا الوطني إذا كان علينا أن نسمع أخباراً سورية صميمة كهذه من فضائيات عربية، من دون أي تعليق أو اعتراف من فضائية سورية أعود للتذكير أن احد شعاراتها التعريفية كان: (فضائية مستقلة يمولها المجتمع السوري) فهل يمول السوريون هذه الفضائية وغيرها كي تهتم بأخبار بن جدو و(الجزيرة) وتهمل وتتجاهل وتعتم على أخبار استقالات سورية على هذا المستوى؟!
على أية حال هذا اعتراف من (الإخبارية السورية) وشقيقاتها التي هللت للخبر بأهمية (الجزيرة) حتى في عز حملات التنديد والشتائم الشنيعة التي توجه لها من داخل سورية، وحتى في عز اتهامات الأخ خالد عبود لها بالعمالة من على شاشتها. لكن شاشة (الجزيرة) رحبة الصدر، وعقلها أكبر من عقول مفبركي تظاهرة الأمطار... ولذلك يثق الجمهور السوري بها... وكيف لا يثق ومن على شاشتها يسمع أخبار استقالات بعض نواب برلمانه؟! وكيف لا يثق وعلى شاشتها يرى صور شهدائه؟ ودماء أبنائه التي يقول الإعلام الرسمي ان العصابات المندسة كانت تستخدم زجاجات مملوءة بالدم لطلي وجوه وأجساد المتظاهرين بها؟! ترى من يصدق السوريون وهم يسمعون هذه السيناريوهات الغبية: جثث أبنائهم التي ترقد أمامهم مغمضة العيون، والقبور التي يوارون في عتمتها أحبابهم... أم زجاجات الدم الاصطناعي التي يعرضها الإعلام السوري كي يكشف لنا المؤامرة، ويقنعنا بأن من يموتون سيخرجون من التوابيت ليطلقوا النار على المشيعين... بينما أجهزة الأمن تحرس الطرقات بعيون باكية وقلوب خاشعة، وهي مفجوعة من هول المؤامرة؟!
* الدم السوري الرخيص!
يشعر الكثير من الإعلاميين أخيراً بالأسى من موقف غسان بن جدو الذي خسر (الجزيرة) ولم تخسره بالتأكيد. وليس هذا لأنه اتخذ موقفاً خاصاً يناقض قناعات آخرين... فالحرية تحتمل الاختلاف، وتفسح المجال لتباين الآراء... لكن الحرية تتبرأ من أصحاب المعايير الممالئة والمزدوجة، فابن جدو الذي شكر الجزيرة على تغطيتها للثورة التونسية في بلاده، وهلل لها وكان فخوراً بها وهي تنحاز للثورة المصرية ضد الطاغية المخلوع حسني مبارك، وراح يتحدث عن تعرضه للتعذيب على أيدي أجهزة الأمن التونسية في عهد بن علي في برنامج (للنشر) على قناة (نيو تي في) من قبل... يرى في تغطية الجزيرة للاحتجاجات في سورية (غرفة للتحريض والتعبئة) فهل الدماء العربية غالية في تونس ومصر وليبيا واليمن، ورخيصة في سورية؟ وهل سقوط أكثر من مئة شهيد سوري في يوم الجمعة العظيمة مؤامرة من هؤلاء الشهداء على نظام الممانعة والمقاومة الذي يطلق الرصاص حتى على مشيعي شهدائهم، بينما من سقطوا في تونس ومصر كانوا شهداء بارين بالحرية وليسوا متآمرين ومعبأين؟! أسئلة مريرة لا نتركها برسم الزميل بن جدو.... بل برسم الزمن الذي يكشف بتحولاته الفاصلة الآن، كل المؤمنين بالحرية حقاً وصدقاً، وكل المتاجرين باسمها زوراً وبهتانا!
ناقد فني من سورية