فلماذا من ذلك الحين إلى وقتنا الحاضر ما زلنا في نفس المكان وكأننا أخذنا على أنفسنا عهدا أن لا نبارح مكاننا ولا نفارقه حتى يسترد الباري وديعته. لقد مرت علينا منذ ذلك الخطاب سنوات عديدة, وولايات حكومية ظنناها من شخوصها عتيدة, لكن معظمها مع بالغ الأسى والأسف لم تصل إلى فصل الخطاب في ذلك الخطاب, فلم تستطيع فهم مدلوه ولا تحليل مضمونة بما يأتي عليه الذوق والحس , أو لعلها فهمت بعض مفرداته لكنها آثرت الانحراف بعد المعرفة, وعدم شغل البال بالتفكير الطويل السليم, فكان ان آثرت أكثر الحكومات السير وراء الهين اليسير عليها, الثقيل على مواطنيها هروبا من المسؤولية وربما من المسائلة الوطنية فيما لو طلب منها ذات يوم أبراز منجزاتها, لذا اصبحت وامست وباتت منجزاتها عليلة هزيلة لا تتعدى مسارح الضرائب الباهظة التي تتفن بفرضها ضريبة تتلوها ضريبة اخرى باهضة حتى لو امعن فيها من هو صاحب لب أو أدنى لوجد أن الضرائب لم تستثني شيئاً يؤكل أو يلبس أو يستعمل في سبل الحياة سواء أكان ضروريا أو كماليا في عرف الحكومة إلا وشمله مسحا من ضرائب الحكومات المتعبات المتتابعات, والأدهى والأمّر أن تجد على مجموع الضرائب ضريبة أخرى يدفعها المواطن من دون علم منه ولا دراية, ولعل ذلك كذلك سببه قلة الحيلة وطلب الستيرة, لا فرط الثقة الزائدة بتدبير الحكومات, وعلى الرغم من كل تلك الضرائب التى لم تعد تحصى وتعد لم يجد المواطن مصانع منتجة بالمعنى السليم التي تستطيع أن تنافس نظيراتها في مستوى جودة انتاجها, والمحزن أننا نرى سبات الحكومات وغفلتها المطولة عن تشييد المصانع العصرية التي تواكب الحضارة الإنسانية مثل مصانع السيارات والطائرات واجهزة الاتصالات, والاجهزة الالكترونية والحواسيب وغيرها الكثير الكثير ..
لقد رسمت معظم الحكومات السابقة سمة اللجاجة والتعنت والتلكؤ في الاستجابة في تحويل تفاصيل الخطاب إلى واقع ملموس, مع أن القيادة اللاحقة جاءت مكملة لما بدأته القيادة السابقة واوصت بما اوصت, وزادت على ما قدمت سابقتها من حث على الاصلاحات في شتى المجالات سواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليم والصحة وغيرها, ثم حثت وقدمت ورغبت في التنافس المحمود وكرمت أصحاب العقول, وقدمت الجوائز النفيسة للفائزين في مختلف الميادين.
وها نحن الآن في هذه الحقبة من الزمان وبعد أن مرت علينا في ظلال حكوماتنا العتيدة شتى ألوان الوعود والخطابات المزركشة الا محدودة إلا إننا لم نزل في مكاننا وليتنا ما زلنا في نفس المكان ولم نبارحه, إنما كان منوال التقدم عندنا تقدم نحو الخلف لا إلى الأمام بالرغم من الوعود العديدة التي قطعتها على نفسها حكوماتنا الرشيدة واشهدت عليها الناس تحت قبة البرلمان بعد البكاء والعويل أن يمنحها الشعب رغبته المقيدة والموافقة العاجلة على مخططات الضرائب الباهظة التي اقتصرت عليها اصلاحاتها الهشة .. وليت الذي انقضى وكان لم يكن ولم ينقضي على ما اسفر عليه الحال, فالمديونية بازياد مستمر, والضرائب الباهظة تسير على نفس المنوال, وشأن كل يوم جديد كشأن الذي انقضى .. لا جديد , سوى قروض جديدة من بلدان بعيدة لا تحل حلالا ولا تعرف حراما, والشعب المنهك في كل مرة هو من يعاني الضنك ويسدد كل تلك القروض الربوية دون أن يعلم في أي جهة صرفت أو في أي بنك سويسري قد اودعت. ولعل من الغريب العجيب أن تجد في ثنايا المجتمع الهزيل من لا يمل من التصفيق العجيب لقاء دراهم معدودة يبيع بها نفسه قبل ضميره وعشيرته التي تأويه ليسير من بعده جمع غفير ممن يرضون بالفتات من المقلدين الذين لا يحصلون على جاه ولا مال سوى تلك الآيادي التي تمتد من بعد التصفيق لطلب المعونة والمساعدة من أجل تحقيق شيء يسير من سبل العيش الكريم الذي اصبح في عرف أكثر الحكومات خبز وماء وهواء فقط لا غير للأبقاء على الإنسان ضمن الحدود الدنيا لمعنى الحياة والرفاهة, لذلك هي تسمي كل ما فاق الخبز والماء والهواء كماليات في الحياة لا ضرورة له .. فهل بعد زيغ ذاك الفكر نتوقع أن نرى يوما المعنى الحقيقي لمسمى الاصلاحات التي تجعل المجتمع ينمو ويتقدم ..