لا تعكس المرايا دائما ما نحن عليه، وإنما ما نطمح أن نصير إليه، لذا كثيرا ما يبتسم من نظر في مرآة. لكن أقسى الصور التي تعكسها المرايا حين تكون مكسرة أو مشروخة، وأحيانا الكتب.
قبل أن تفكروا باستدعاء شخصية معاصرة أمام مرآة، لكم الحرية في اختيار من تكون! أود أن أتذكر صفحات من رواية اشتهرت في القرن الثامن عشر، صدرت في روسيا القيصرية، لشاعر يدعى ميخائيل ليرمنتوف، هي روايته اليتيمة، فما كتب رواية أبداً، واسمها اللافت «بطل لهذا الزمان».
غداة صدور الرواية، ذهب المجتمع الثقافي والمخملي إلى توقع من قد يكون بطل الرواية الذي وسم برجل عصره..؟ واعتقد رهط منهم انه سيكون القيصر نفسه!. لكن أياً من تلك التوقعات لم يصب.. فالكاتب كان أبعد ما يكون عن المدح الفارغ، وبطل «من هذا الزمان، ذاك الزمان»، حمل أمراض عصره، وربما ما تبع من العصور، يقول: «لقد سحقت الظروف طموحي، ولكنه ظهر في هيئة أخرى، لأن الطموح ليس سوى التعطش إلى السلطة».
ويمضي بتشورين قائلاً :الشر يولد الشر. لقد قال أحدهم: الأفكار كائنات عضوية. ولادتها تعطيها شكلها، وهذا الشكل هو الفعل، من تولد في رأسه أفكار أكثر يقوم بأفعال أكثر، ولذا فإن العبقري المقيد الى كرسي الوظيفة يجب أن يموت أو يصاب بالجنون، تماماً كالانسان ذي البنية الجسدية القوية الذي يموت بالسكتة القلبية اذا عاش حياة خاملة ساكنة.
ويتابع:» كم من الناس يبدؤون حيواتهم حالمين بإنهائها كالاسكندر الأكبر أو بايرون، ومع ذلك يظلون عمرهم كله كتاباً في الدواوين ؟».
ويواصل تداعياته في مكان آخر قائلاً: «سألت نفسي: «أمن المعقول أن يكون دوري الوحيد في هذا العالم هو تدمير أحلام الآخرين. لقد كنت دائماً شخصية ضرورية في الفصل الخامس، ورغماً عني كنت أؤدي الدور البائس».
ويستطرد قائلا :»أستعرض في ذاكرتي ماضيّ كله وأتساءل رغماً عني، لماذا عشت ؟ ولأي هدف ولدت؟ انا واثق من وجود الهدف، ومتأكد من أن دوراً سامياً كان قد حدد لي، لأني أشعر في روحي قوى لا حدود لها، ولكني لم أحرز ذلك الدور، شدتني إغراءات الأهواء غير المشكورة، ثم خرجت من حمأتها صلباً وبارداً كالحديد، ولكني فقدت الى الأبد حرارة الميول النبيلة «.
..»أيها القراء الأعزاء، إن «بطل من هذا الزمان» هو صورة رجل حقاً، لكنه ليس صورة رجل واحد. انه صورة تضم رذائل جيلنا كله، وقد بلغت كمال التفتح. قد تقولون لي مرة أخرى: ما من إنسان يمكن أن يبلغ هذا المبلغ من الفساد. وجوابي: ترى لماذا تصدقون وجود جميع فجرة المآسي والروايات الرومانسية، ثم لا تصدقون ان شخصاً مثل بتشورين يمكن أن يكون مستمداً من الواقع؟ ». تلك كانت فقرة من تقديم ليرمنتوف لروايته.
بتشورين هو المهيمن الرئيسي على الرواية، فهو موجود في اجزائها الخمسة، مرة يكون الراوية، واخرى يكون ميتاً وثمة من يروي عنه، أو من يقرأ في أوراقه، وأحداث الرواية غير مرتبة زمنياً ومتداخله أحداثها، فتارة نجد بتشورين ميتاً في جزء، ثم نراه يروي لنا الجزء التالي، والعمل كله أشبه بلعبة كلمات متقاطعة، كأنه متاهة سياسية.. تشبه المتاهات السياسية التي بتنا نراوح فيها في هذا الزمن.
يبقى.. هل يمكن أن تكون مرآة أو كتاب آخر أكثر صدقاً في عكس بتشورين معاصر.