يواجه التعليم العالي مضموناً وإدارة صعوبات عديدة، لهذا ارتفعت الأصوات المطالبة بالمراجعة أو الإصلاح وما زالت. ويتصدر المشهد مؤخراً الجدل الدائر حول «اختيار» رؤساء الجامعات ورفع الحد الأدنى للقبول من عدمه. لقد صور للعموم بأن اختيار رئيساً لإحدى الجامعات يُعد نجاحاً باهراً وخطوة إصلاحية كبيرة. وآخذا بعين الاعتبار ما شهدناه من شدٍ وجذب، أكتفي بالقول بأن الاختيار المعني، وبغض النظر عن نتائجه، ليس نجاحاً في حد ذاته ولا هو بالخطوة الإصلاحية لأسباب نتناولها لاحقاً.
ويدور الحديث أيضاً عن رفع معدل القبول من عدمه بين مؤيد يدعي الاصلاح ومعارض يُتهم بعدمه. إن تسليط الضوء على هذه القضية لا يرقى إلى خطوة إصلاحية، لأن جزئية كهذه لا تأتي بطبيعتها في مقدمة عملية إصلاح شاملة، ولا تعالج على النحو المطروح. وبالتالي ليس هكذا تورد الإبل. إن إصلاح التعليم العالي من خلال تناول قضايا منفردة لا طائل ولا جدوى منه لأنه يختزل موضوعاً كبيراً في جزئيات. إن ما يدور يكشف عن عدم وضوح الرؤية للقضايا الجوهرية مما لا يسمح بوضع خطة إصلاحية شمولية ويفتح الباب أمام العشوائية. وبما أن الموضوع يهمنا جداً ومن أوجه عدة، يُملي علينا الواجب أن ندلو بدلونا بما فتح الله علينا. ولعلي لا أجانب الصواب إذا قلت مبدئياً بأن القضايا الجوهرية معروفة والحلول ممكنة، وأن بقاء الحال ليس في صالح أحد.
إن التعليم العالي كأي نظام يتكون من ثلاثة عناصر: المدخلات والتفاعل والمخرجات. لذا يجب التعامل مع هذه العناصر مجتمعة لدراسة واقع حال كل منها، لتعظيم الإيجابي وإصلاح السلبي، بنظرة شمولية لتحقيق الانسجام بين الآليات المستخدمة والأهداف المرجوة. ودعني أبدأ بالمخرجات: كثيراً ما نسمع الحديث عن عدم موائمة مخرجات التعليم لمتطلبات السوق وعن التدني النسبي في المستوى التعليمي وما إلى ذلك. ويقيني أن المجتمع لا يُريد خريجاً على درجة عالية من المهارات الفنية فحسب، ذاك هو الإنسان الآلي، وإنما يُريد خريجاً بتلك المواصفات مع تمتعه بصفات إنسانية تجعل منه مواطناً صالحاً.
إن العمل أياً كان يتكون من جانبين: جانب بشري وآخر فني، لهذا يجب على التعليم العالي من منطلق مسؤولياته التربوية والتعليمية والبحثية أن يعمل على أن يكون الخريج مهيئاً بالقدر المناسب على الجانبين. لكن فلسفة التعليم العالي المعمول بها ما فتأت تؤكد للطلبة، أن الطريق إلى «المستقبل الواعد» يكمن في العلم ولا شيء غيره. لكن، ولسوء حظ من يتبنى ذلك، لا علاقة البتة للعلم بالقيم والأخلاق.
إن العلاقة بين العامل ورب العمل مثلاً كانت وما زالت محكومة بقيم تربوية وأخلاقية لا بقواعد علمية. إن المجتمع يحتاج دائماً إلى الإنسان لأن الفرد منا يقضي يومه كاملاً، بما فيه وقت عمله، بوصفه إنساناً، بينما يقضي جزءاً منه بوصفه فنياً. إن الخريج-الإنسان هو من يعمل بأمانة وصدق وإخلاص وانتماء وهو الذي يسعى دائماً إلى أن يرقى بنفسه ويعمل على تحقيق الإحسان أو أعلى درجات الإنتاجية.
إن الخريجين هم القادة ورجال الأعمال وغير ذلك القادمون لا محالة، وهم أباء وأمهات المستقبل، ولهذا يجب أن لا يُختزل تعليمهم إلى الجانب الفني، على أهميته. ويقيناً، إن حصل هذا فإنهم سيفشلون في النهوض بالواجبات الاجتماعية والعملية المنوطة بهم الأمر الذي لن يكون في صالح الجميع. وفي نظري لم يفلح التعليم العالي وللأسف في تحقيق التوازن المرجو وما كان ليفلح إذ انصب الاهتمام وما زال على الجانب الفني. لقد صنفت المواد التي على الطلبة دراستها في مجموعات أهمها بالمطلق بالنسبة لهم مواد التخصص الاجبارية التي يُتعامل معها بجدية بينما يقل بتفاوت الاهتمام بالمواد الأخرى إلى درجة أن الغالبة العظمى من الطلبة يبدون استخفافاً ملحوظاً بالمواد التي يفترض أنها موجهة إلى «خلق» الخريج-الإنسان.
ولو كان صاحب القرار يؤمن يقيناً بأهمية دور هذه المواد، ويدرك أنها لا تقل أهمية عن مواد التخصص، لوضعها ضمن المواد الإجبارية كي يُتعامل معها بالجدية ذاتها لتحقيق الهدف المرجو. ومعلوماً وللأسف أن مضمون المواد المذكورة بات لا يُسمن ولا يُغني من جوع، وأنها أصبحت «تدرس» على غير ما يجب مما أفقدها قيمتها عند الطلبة.
يجب أن لا يفهم من هذا الإقلال من أهمية الجانب الفني الذي شابه التقصير النسبي، لذا على أصحاب القرار: العناية بدراسة التخصصات التي يحتاج إليها المجتمع لتوفير ما هو ممكن منها؛ ومراجعة البيئة التدريسية بما فيها جودة المحتوى، كي يواكب التطورات الحديثة المناسبة؛ والاهتمام بكفاءة المدرسين، إذ تسرب إلى التعليم الجامعي عدد لا بأس به ممن لا يملكون المهارة المطلوبة وإن حملوا الدرجات العليا، من خلال طرق التعيين المتعددة التي ما زالت تمارس. من جانب أخر، لا مندوحة أمام المؤسسات الأردنية عموماً من إدخال الخريج في دورات تدريبية فنية سواءً ما يرتبط منها بطبيعة وخصوصية العمل أو لإكسابه مهارة جديدة تمليها ظروف العمل المتجددة اسوة بما يفعله غيرنا بل وبعض منا، لأن جميع الجامعات تقدم الأساسيات.
وأما من حيث التفاعل، فإن هذا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمدخلات، وتحديداً بسلطات وصلاحيات أصحاب القرار وبالمساءلة المطلوبة من حيث وجودها من عدمه، لذا فإنه سيتم تناولهما معاً.
ومعلوماً أن المدخلات تتكون من: المدرسين، بمن فيهم الرؤساء والنواب والعمداء ورؤساء الاقسام والمجالس المتعددة، والطلبة والعاملين على جميع مستوياتهم، وجميع التسهيلات المادية وغير المادية المتعلقة بالعملية التدريسية والبحثية، بالإضافة إلى القواعد والتعليمات والترابط، إن لم يكن التداخل، بين المؤسسات ذات العلاقة بالتعليم العالي. لا شك أن المقام لا يسمح بتناول جميع العناصر الفرعية المذكورة أو التوسع في ما سيتم تناوله، لكن سنلقي أكبر قدر ممكن من الضوء على العناصر الأكثر إلحاحاً.
فإذا تناولنا عنصر الطلبة، حيث تقع القضية المتعلقة بجزئية رفع الحد الأدنى للقبول، فإن هذا وكما هو معلوم للجميع يرتبط ارتباطاً عضوياً بمخرجات وزارة التربية والتعليم. ومن ثمَّ فإن إصلاح المخرجات المدرسية يُنهي تلقائياً الحديث عن رفع معدلات القبول من عدمه. وهنا لا بد أن نسجل تقديرنا لما قامت به الوزارة المعنية في الآونة الأخيرة بخصوص امتحان الثانوية العامة وغيره. ولكن، ما زالت هناك قضية على غاية من الأهمية تتطلب حلاً سريعاً ألا وهي ثنائية الدور، غير الحميدة، المناطة بامتحان الثانوية العامة. إذ لا ندري لماذا ما زال امتحان الثانوية العامة يحدد أمرين معاً هما: نهاية المرحلة المدرسية وبداية المرحلة الجامعية من عدمها. وأحيل القارئ الكريم إلى جريدة الرأي الموافق 19/ 8/ 2014 حيث تناولت الموضوع تحت عنوان: مقترح لتصور بديل لامتحان «التوجيهي».
وأما المدخل الآخر والأكثر أهمية فإنه يكمن في سلطات وصلاحيات رؤساء الجامعات ويرتبط هذا ارتباطاً وثيقاً بالعمل المؤسسي من عدمه. وبما أن الجدل يحتدم حالياً حول اختيار الرؤساء ومدى كفاءة اللجان والمعايير والآلية، فإن المراقب الحصيف لا بد وأن يصل إلى القناعة بأننا لا نسير في الاتجاه الصحيح طالما أن الاهتمام ينصب على شخص الرئيس. إن نسبة لا بأس بها من أساتذة الجامعات تجاهر بالقول أن الرئيس عادة هو «اللاعب الوحيد على المسرح»، إلا من رحم ربي، وأنه يتمتع بسلطات وصلاحيات تخوله إدارة الجامعة على جميع المستويات، على النحو الذي يراه هو مناسباً، وفقاً لـ «اجتهاداته». وفي حالة كهذه، يصعب القول بإمكانية مواجهة الرئيس، صاحب الولاية في الشأن كله، معارضة مؤسسية جادة، مع وجود حالات استثنائية فردية، لاجتهاداته تلك أو أن يكون في موقع المساءلة من قبل المجالس الجامعية بما فيها مجلس العمداء.
إن موقع الرئاسة مركز قيادي لا يرتبط مطلقاً بالتخصص والبحث العلمي ولا حتى بالرتبة الأكاديمية التي يمكن قبولها وظيفياً. إنه مركز يتطلب شخصية تتصف بالرؤية، والقدرة على القيادة، والعمل المؤسسي أو العمل بروح الفريق وفقاً للتعليمات، والقدرة على الاقناع وافساح المجال للرأي الآخر، والاهتمام أولاً وأخيراً بالمصلحة العامة. آنى يمكن التأكد من هذه السمات من خلال اللجان والمعايير المستخدمة التي قيل عنها الكثير. ويمكن القول بلا تردد بأن النتائج التي تتوصل إليها اللجان محكومة بأفرادها، وبالمعايير التي تضعها، بل وبالضغوط الممارسة عليها. من ناحية أخرى، ليس من المقبول البتة اختيار رئيس من خارج كادر الجامعة ففي كل منها من الكوادر البشرية ما يستحق الاحترام والتقدير، ثم إن أهل مكة أدرى بشعابها. ودعونا من دعوى الحيادية لأن هذه لا تعمر طويلاً بعد تعيين الرئيس. وقد يقال دفاعاً أن هذا ما تفله الجامعات العالمية. أعلم أننا قد نحسن التقليد، لكن هذا يتطلب أن لا نستورد الآلية بل والبيئة المصاحبة لها!
إن القيادة والرؤية والعمل المؤسسي لا تستخلص من السير الذاتية والمقابلات وإنما من آراء الزملاء والطلبة والعاملين في الجامعة المعنية الذين عملوا معاً لسنوات طويلة، هؤلاء هم فقط من يعرفون قدرات زملائهم بل واهتماماتهم ومشاركاتهم في الإصلاح الجامعي عموماً، لذا فإنهم هم القادرون على تقييم المرشحين. وهذا لا يتحقق من خلال الآلية المستخدمة وإنما من خلال آلية الانتخاب. نعم، أعلم مسبقاً أنه سيقال إننا لسنا مهيئين بعد للحديث عن انتخاب جميع قيادات الجامعة! ولكني بالمقابل أقول إنه ليس هناك ما يمنع من العمل على تهيئة الظروف اللازمة لانتخاب، في الأقل، رؤساء الاقسام من قبل أعضاء القسم وممثل الطلبة، وعمداء الكليات من قبل أعضاء الكلية وممثلي الطلبة، وهذا نحن قطعاً مهيئون له.
إن الإصلاح المنشود لن يتحقق دون حصول أعضاء الهيئة التدريسية والطلبة بل والإداريين على الحقوق التي تمكنهم الانتقال من دور المشاهد إلى دور المشارك في صياغة التعليمات وصناعة القرارات الجامعية من خلال من ينتخبون من زملائهم. في هذه الحالة: ستصبح مجالس الاقسام والكليات ومن ثمّ مجلس العمداء على قدر أكبر من المسؤولية وقادرة على المشاركة الفعلية في إدارة الجامعة؛ وسيكون التنافس على مصلحة الجامعة بشكل جماعي هي القضية الأهم؛ وسيعلم الرئيس أن هناك لاعبين أخرين على المسرح وأنه لم يعد وحده الآمر الناهي كما يقال، وأنه مسؤول أمامهم بحكم شرعية الانتخاب؛ بل إنه يمكن الاستغناء حتى عن مجالس الأمناء، إذا كانت هذه ما زالت عاملة، ويمكن أيضاً المطالبة بالاستقلالية الفعلية للجامعات والإصرار عليها؛ عندها ستقفز إلى الواجة العديد من القضايا الجامعية المنسية، التى لا داعي لذكرها هنا، والذي يشكل التعامل معها وحلها جزءاً لا يتجزأ من الاصلاح المنشود.
وهنا أجدني مضطراً إلى الإشارة بخصوص الجدل الدائر حول مقترح تعطيل الجامعات ثلاثة أيام في الاسبوع أن يوم الخميس المتباكى عليه ضائع في حالة تطبيق المقترح وفي حالة عدم تطبيقه، بل إنه ضائع منذ أن بدأنا العمل بنظام الساعات المعتمدة. وللعلم هناك دراسة يتيمة حول تعديل نظام الساعات المعتمدة المعمول به في الجامعات الأردنية تحديداً منشورة عالمياً عام 2009. وتبين هذه الدراسة كيف يمكن تحويل جميع الحصص إلى ساعة ونصف دون ضياع يوم الخميس بل وتوفير شهرين كاملين معاً في العام الدراسي الواحد!.