الذين لم يشاركوا جزئيا في جنازة الراحل طارق عزيز الأولى في كنيسة العذراء الناصرية في الصويفية، والثانية حيث مراسيم الدفن في مقبرة الخلود في مأدبا ولم يحضروهما، لا يدركون حجم ومعنى ومضمون المشاركة الأردنية والعراقية والفلسطينية، في تكريم هذا الرجل الذي قضى في سجون الاحتلال الأميركي أولاً وسجون قوى التخلف وطائفية أحزاب ولاية الفقيه ثانياً، فهي جنازة سياسية بامتياز تعكس الانحياز الوطني القومي اليساري للرجل وما يمثل من مواقف وتراث وتطلع، قاده البعثيون وما زالوا ممسكين بما يرون أنه حق وصواب، ويناضلون من أجله، ويعملون على أساسه .
شبيبة حزب البعث العربي الإشتراكي أضفوا المهابة على المراسم وأعطوا المضمون رمزيته، وسط حضور قيادات وكوادر وجمهور البعثيين وفي طليعتهم ختيارهم القائد أكرم الحمصي، وذلك لدلالة في غاية الوضوح، وفي رسالة هادفة لتحقيق غرضين : أولهما الاستذكار بتضحيات وحضور البعثيين كجزء أساس وقيادي للتيار القومي في العالم العربي في مواجهة قوى الشد العكسي التي لا تريد التعددية وترفض الاحتكام إلى صناديق الاقتراع أولاً، وثانياً ضد قوى الظلام والتخلف من أحزاب وفصائل أصولية مدمرة، سعت لشطب تراث القوميين واليساريين ضد الاستعمار ونضالاتهم من أجل التقدم والنهوض الوطني والقومي، وثانيهما من أجل التأكيد أن الاخفاقات التي تعرض لها القوميون باحتلال العراق، وزوال حكم البعث، واستشهاد قادة الحزب، لا يلغي مواصلة الطريق والتطلع نحو المستقبل بروح تفاؤلية مغموسة بالتصميم والصلابة والإيمان بالخيار القومي والتمسك به في مواجهة طغيان أحزاب وفصائل التيار الإسلامي الخمسة : حركة الإخوان المسلمين وولاية الفقيه وحزب التحرير الإسلامي وتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية داعش، وفي مواجهة الانغلاق والردة المحلية وإبراز الوطنية وكأنها نقيض للتوجهات القومية واليسارية والإسلامية والليبرالية .
حزب البعث العربي الإشتراكي، أراد من خلال جنازة الراحل طارق عزيز، استذكار رئيسه الراحل الشهيد صدام حسين الذي يحظى بمكانة ورفعة يستحقها على ما أثبته خلال مرحلتين الأولى في المحاكمة، حين حول المحاكمة إلى محاكمة الاحتلال الأميركي وكل من وقف معه وسانده، ومحاكمة القوى المحلية من أحزاب ولاية الفقيه والإخوان المسلمين الذين ورثوا السلطة في العراق بعد سقوط النظام 2003، بمساعدة وقرار الحاكم الأميركي بريمر، والثانية خلال عملية الإعدام التي أسهمت في تخليد الرجل وتخليد ما يؤمن به، واستهزائه بمن حوله من أدوات الاحتلال ورموز الأحزاب الطائفية، وتمسكه بتحرير فلسطين وعروبتها، دفعت أولئك الذين خالفوه وعارضوه في حياته وفي إدارته للدولة، كي يحترموا صلابته وإيمانه بقوميته، واحترام رفاقه ومن معه وفي مقدمتهم الراحل طارق عزيز .
الأب رفعت بدر قال هذه جنازة رمزية للشهيد صدام حسين، بينما قال بلال قاسم عضو المكتب السياسي لجبهة التحرير الفلسطينية، لم يكن عبثاً ولا صدفة أن طارق عزيز قائد بعثي ومسيحي، إنها دلالة وصفعة لأولئك الذين يعملون على تفتيت شعبنا وأمتنا بعد أن رسخت الثورة العربية التي قادها الهاشميون، ومن بعدهم عبد الناصر والبعثيون، فجاء من يهدم هذا التراث القومي الذي شارك فيه العرب من مسلمين ومسيحيين وحتى يهود عادوا الصهيونية ورفضوا مشروعها الاستعماري التوسعي على أرض فلسطين، فالصهيونية العنصرية الاستعمارية الضيقة استعملت اليهود ووظفتهم لتنفيذ مشروعها السياسي، بينما استثمرت ولاية الفقيه الشيعة العرب لتمرير مشروعها الطائفي على حساب العرب ومشروعهم القومي، كما يفعل الآن تنظيما القاعدة وداعش باعتبارهما القيمين على حضور السنة وحمايتهم وبناء قاعدتهم السياسية وعلوها في مواجهة أحزاب ولاية الفقيه، سواء في سوريا أو العراق، وفي مواجهة الأكراد كذلك .
شعب الأردن وأهله ونظامه احتضن جثمان حارث الضاري أمين عام هيئة علماء المسلمين العراقية في سحاب، خلال شهر أذار 2015 الماضي، وها هو يوفر مكاناً آمناً لطارق عزيز في حزيران 2015 لم يستطع شعبه العراقي، ولا حزبه، توفيره له على أرض العراق الذي قضى من أجله، ولكن قرار احتضانه في عمان يخدم شعبنا وتوجهاته القومية مثلما يخدم نظامنا السياسي الذي قام على تراث الثورة العربية ليكون الأردن وسيبقى مكاناً دافئاً للمظلومين الذين افتقدوا حرية الاختيار في بلادهم، ولذلك منح حارث الضاري وطارق عزيز ومن قبلهم جورج حبش الشرف والكبرياء لنا كأردنيين في أن يكون الأردن حاضنة لهؤلاء وما يمثلون من نُبل وتطلع وتراث وكفاح من أجل حرية العرب وانتصارهم في أن يكونوا كما يستحقون إلى جانب الشعوب المتحررة والمتحضرة .
h.faraneh@yahoo.com