الملاحظة الأولى: مواقف الأردنيين، في الاستطلاع، من كثير من القضايا الوطينة المطروحة عليهم تأتي متغيرة بين استطلاع وآخر، حسب المستجد من الأحداث، وأثر هذا المستجد في مواقفهم الآنية من الحدث موضوع البحث. وهذا طبيعي.
يضرب مثل، هنا، في توقعات المستجيبين في الاستطلاع إزاء تطور الأمور السياسية في بلدهم والمنطقة. فقد قال 74 % منهم، في استطلاع شباط 2015، إن الأمور تسير في الاتجاه الصحيح. ولعل السبب، في هذه النسبة المرتفعة، يرجع للحالة العامة من الرضا الذي خلقته بعض الأحداث، مثل قمة شرم الشيخ الاقتصادية قبل ذلك بشهر واحد وقرارها بانهمار المساعدات والاستثمارات، بعشرات مليارات الدولارات على مصر؛ وقد ترافق ذلك مع انطلاق عاصفة الحزم لاستعادة الشرعية في اليمن، بالإضافة لقرب انعقاد القمة العربية في نفس المكان والقرار بإنشاء القوات العربية المشتركة، وهي أحداث لم يكن يتوقع الناس حدوثها من قبل مما خلق حالة من أمل واعد بالخروج مما هم فيه.
لكن هذه التطورات الإيجابية الثلاثة لا تصنع المعجزات، فورا، كما لو بتلويحة من عصا سحرية، بل هي، في أفضل الشروط، تساهم في خلق بيئة صديقة للإنجاز الذي يأتي تدريجيا، دائما، وببطء، حتى عندما تواتي الظروف. هذه الحقيقة، غالبا ما تعرفها، وبصورة أفضل، فئة قادة الرأي. أما فئة العينة الوطنية فتأتي مواقفها، في حالة بعضهم، على شكل ردود فعل سريعة تكون فترة صلاحيتها قصيرة وعابرة، في منطقة تتسم فيها الأحداث بسرعة فائقة.
وهكذا عادت المواقف وبعد شهرين فقط، كما ظهر باستطلاع أيار الحالي، لما كانت عليه الأمور من قبل؛ فانخفضت نسبة القائلين بأن الأمور تسير بالاتجاه الصحيح إلى 65 %. وهي نسبة معقولة. من الملاحظ، هنا، أن النسبة الأخيرة لم تكن انخفاضا، بل كانت، في واقع الحال، ارتفاعا بنسبة 14 % عن نتيجة استطلاع كانون الأول لسنة 2014.
وربما يمكن القول، هنا، إنها تمثل موقفا أردنيا واعيا وثابتا، إلى حد كبير، على مجمل الأوضاع وإدارتها من قبل حكومة الدكتور عبد الله النسور وفريقه الوزاري، وهي الحكومة ذات الخيارات المحدودة في وضع داخلي صعب ووضع عام متأزم في المنطقة كلها.
الملاحظة الثانية: يتضح من نتائج استطلاع أيار الحالي ونتائج أخرى كثيرة ما زال مركز الدراسات الاستراتيجية يزود المهتمين بها مرة واحدة كل ثلاثة أشهر، على الأقل، أن نسبة عالية من الأردنيين (84 %) يتخذون مثل هذا الموقف الإيجابي الثابت، تقريبا، من مجمل الوضع العام، على الرغم من معاناتهم، وخاصة العينة الوطنية، من ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وتدني الدخل، والبطالة، والفقر في حالة نسبة كبيرة منهم. وهم يعزون ذلك لا لتقصير من رئيس الحكومة أو حكومته، كما جرت العادة، سابقا، بل لأسباب موضوعية طبيعية خارج قدرة الأردن، على التدخل، حكومة وشعبا.
ومنها، على سبيل المثال، تدفق اللاجئين السوريين بأعداد كبيرة تمثل 20 % من سكان المملكة، واضطرار الأردن، لأسباب سياسية وقانونية دولية، وخلقية، على فتح أبوابها لهم وإيوائهم ومقاسمتهم ما نملك، وهو قليل دائما، ويصبح مكدودا في ضوء تقصير دولي عن التصدي للمشكلة التي هي بالأساس ليست مشكلة أردنية ولا من صنع الأردن؛ هذا بالإضافة إلى أن التدفق المستمر للاجئين قد فاقم لدينا مشكلتي الفقر والبطالة اللتين هما، أصلا، مشكلتان معقدتان وتثقلان على حركة الأردن لبناء نفسه. كما أن الأزمة السورية قد انتهت بإغلاق حدودنا الشمالية على تجارتنا الخارجية، بمثل ما فعلت الأزمة داخل العراق.
هذه الحقائق السياسية الثقيلة التي أصبحنا فيها، ولأسباب تاريخية وتقاليد سياسية اردنية راسخة، مجرد متلق لنتائجها السلبية لا حيلة لنا في تخفيف آثارها الضارة علينا إلا باللجوء لقدرة قيادتنا الدبلوماسية، ومحاولات هذه القيادة في حشد المجتمع الدولي الصديق للوقوف إلى جانبنا علّنا جميعا ننجح في إنهاء الأزمة واقتلاعها من جذورها. مواطنونا مدعوون، قبل ذلك، لتحمل ما يخصهم منها بشد أزر الوطن، كما اعتاد أهلهم أن يفعلوا ذلك من قبل في كل الملمات التي أحاقت بهم في الماضي القريب والبعيد ونجحوا في التغلب عليها.
الملاحظة الثالثة: لقد قرأت هذا الاستطلاع بكل نتائجه وأرقامه. وتمنيت لو اطلع كل أردني عليها. فقد آن لشعبنا أن يقف على آخر ما تتوصل إليه مؤسسات البحث العلمي حول القضايا العامة، والمواقف المختلفة منها وعلاقات المواطنين بعضهم بالبعض الآخر، وعلاقاتهم بالدولة كلها. فمثل هكذا معرفة تؤسس لمواطنة فاعلة يقوم فيها المواطن بواجبه بالحماس الذي يطالب به بحقوقه. ولمؤسسات مجتمعنا المدني دور حاسم في الوصول لهذه النتيجة. ربما لو قامت مؤسساتنا المدنية بفعل ذلك لانتقلنا بشعبنا مسافات كبيرة على طريق التقدم.