وفي رواية هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( ما من والٍ إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، فمن وُقي شرها فقد وُقي، وهو من التي تغلب عليه منهما ).
البطانة: الدخلاء، جمع دخيل، وهو الذي يدخل على الرئيس في مكان خلوته، ويفضي إليه بسره، ويصدقه فيما يخبره به مما يخفى عليه من أمر رعيته، ويعمل بمقتضاه. " إلا وله بطانتان ": البطانة: الصاحب، وهو الذي يُعرّفه الرجل أسراره ثقة به, شبهه ببطانة الثوب. وعن عُمَر بن الْخَطَّاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال :" شاور في أمرك الَّذِينَ يخافون الله، احذر بطانة السُّوء وأَهْل الرَّدَى على نفسك ".وإن أحد أسباب تمادي الظلمة في ظلمهم هم بطانة السوء وإعانة بعض الرعية الظالم على ظلمه. قال في " السلطان إذا كان صالحاً ؛ ووزراؤه وزراء سوء منعوا خيره، فلا يقدر أحد أن يدنو منه،ومثله في ذلك مثل الماء الطيب الذي فيه التماسيح، لا يقدر أحد أن يتناوله وإن كان إلى الماء محتاجاً، وإنما الملك زينته أن يكون جنوده ووزراؤه ذوي صلاح؛ فيسددون أحوال الناس؛وينظرون في صلاحهم ".
إذا كان الفساد الإداري هو :
" سوء استغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة ". فإن صوره وأشكاله كثيرة جداً ومنها :
سوء استعمال السلطة، ومن صور ذلك : تقديم الخدمات الشخصية وتسهيل الأمور وتجاوز اعتبارات العدالة الموضوعية في منح أقارب أو معارف المسئولين ما يطلب منهم.
المحسوبية، ويترتب على انتشار ظاهرة المحسوبية شغل الوظائف العامة بأشخاص غير مؤهلين مما يؤثر على انخفاض كفاءة الإدارة في تقديم الخدمات وزيادة الإنتاج.
الوساطة، فيستعمل بعض الموظفين الوساطة شكلاً من أشكال تبادل المصالح.
الإسراف في استخدام المال العام، ومن صوره : تبديد الأموال العامة في الإنفاق الغير ضروري ولا له عائد نفع للمجتمع.
فرض المغارم، وتعني قيام الموظف بتسخير سلطة وظيفته للانتفاع من الأعمال الموكلة إليه في فرض الإتاوة على بعض الأشخاص أو استخدام القوة البشرية الحكومية من العمال والموظفين في الأمور الشخصية في غير الأعمال الرسمية المخصصة لهم.
الانحرافات الجنائية، ومن أكثرها ما يلي : الرشوة = اختلاس المال العام.
أسباب الفساد الإداري :
وأسباب الفساد الإداري كثيرة، وهي ترجع في جملتها إلى ثلاثة أمور :
أسباب بيئية اجتماعية : تعود إلى التربية والسلوك، بعدم الاهتمام بغرس القيم والأخلاق الدينية في نفوس الصغار والكبار، مما يؤدي إلى سلوكيات غير حميدة بقبول الرشوة وعدم المسئولية وعدم احترام الأحكام الشرعية والقوانين المنظمة.
أسباب اقتصادية : تعود إلى سوء الاقتصاد والمعيشة، فيعاني أكثر الموظفين - خصوصاً في الدول الفقيرة والنامية - من نقص كبير في الرواتب والامتيازات، ما يعني عدم القدرة على الوفاء بمتطلبات المعيشة ومن هنا يجد الموظف لنفسه مبرراً لتقبل الهدية "الرشوة" من المواطنين ليسد بها النقص المادي الناتج عن ضعف الرواتب.
أسباب سياسية : تواجه بعض الدول وخصوصاً في الدول النامية تعود إلى تغييرات في الحكومات والنظم الحاكمة، فتنقلب من وضع إلى آخر والعكس، الأمر الذي يخلق جواً من عدم الاستقرار السياسي مما يهيئ الجو "للفساد الإداري"، كما هو الحال في بلداننا العربية غير المستقرة سياسياً، وكما حدث إبّان ما سمي بالربيع العربي من اختلاس واستنزاف للأموال العامة ف
أثر بطانة السوء في فساد الحكم والإدارة :
ولكن.. في نظري أن أية حكومة أو أي حاكم وصف "بالفساد الإداري" واستشرى الفساد في مفاصل حكومته وإدارته فلا بد أن يكون لذلك علاقة قوية ببطانة السوء التي تحوم حوله وتزين له فعله وتستنفع من ورائه. وهذا الذي نقوله قد دل عليه الشرع والواقع.
إنّ بطانة السوء تقوم بدور الشيطان وسوسةً وتزييناً للباطل، يقول تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}
ذلك أنّ بطانة السوء لا تأمر إلاّ بالشر والفساد،ولا تدخّر جهداً في الفساد وجلب الضرر.
كما أنّ بطانة السوء تمنع الحاكم من رؤية الحقيقة بسبب تزيينهم له الباطل،وتشجع الظالم على الاستمرار في ظلمه وفساده وبغيه،بل وربما زيّنت له توسيع دائرة الظلم والفساد.
أساليب ماكرة : إنه قد يقع ممن ولاه الله عز وجل شيئاً من أمور المسلمين انحراف وزيغ وميل وجور، وحينما نبحث عن الأسباب التي أدت به إلى هذا الانحراف؛ نجد أن هناك أسباباً كثيرة لعل من أهمها بطانة السوء التي تحيط بالرجل فتضيق عليه الخناق، وتزين له ما حرم الله عز وجل، وقد ربما تغريه بالمؤمنين؛ لأن هذه البطانة منحرفة، فتريد أن ينحرف معها هذا المسئول؛ ومن هنا تختل قواعد الأمن والعدل في هذه الحياة، وحينما تختل قواعد العدل تفسد الحياة كلها.
وإنما تسلطت هذه البطانة على هذا الحاكم باتخاذ أساليب ماكرة من أبرزها :
1- تملُّق البطانة ونفاقها. وهذا كثيراً ما يدفع الحاكم إلى الغرور والاستبداد برأيه ثم إلى الطُّغيان ومجاوزة الحدود حيث يجد تأييداً مطلقاً من البطانة المنافقة لمواقفه استرضاءً له.
2- طلب رضا ذوي السلطان بكل وسيلة. فبطانة السوء هي التي تتقرب إلى ذوي السُّلطة بما يغضب الله ويرضيهم، كمدحهم بما ليس فيهم، والتذلل لهم لتحقيق هدف نفعي هو في الغالب جمع المال أو إحراز الجاه أو كلاهما، أي إن الدافعين الأساسيين لهذا النوع هما: الطمع والخوف، أو الرغبة والرهبة. فتزين للحاكم ما يقوم به من أعمال وإن كانت غير صائبة.
3- المدح الكاذب وتقديم القرابين. يقول العطار: "وأكثر ما تتقرب بطانة السوء إلى الحاكم بالثناء عليه، وتزيين أعماله، وتقديم الهدايا له، لتظفر منه على موافقته على مآرب غير مشروعة، أو تجعله يغض الطرف عن مفاسدهم، واستغلال نفوذهم". فهذا التملُّق والنِّفاق كما سبق قائم ومبني على أساس حب المناصب والثروة.
أهداف دنيئة : وتتنوع أهداف بطانة السوء من حجب الناس عن المسئول. فمنهم من يريد أن يقوى نفوذه ويكون هو صاحب الأمر والنهي، فالمسئول لا يعرف غيره، ومن ثم ينقل أوامره إليه. ويكون عليه هو إبلاغ تلك الأوامر إلى بقية المرؤوسين. فيبلغها إليهم وكأنه هو من أصدر تلك الأوامر. ومنهم من يحاول استغلال قربه من المسئول في تحقيق المكاسب الخاصة من جراء علاقته به, فهو يلهث ورائه لانتزاع توقيعاته بالموافقة على أسفار واجتماعات ومقابلات يقوم بها، ليجمع من ورائها من الأموال التي ما كان يحلم أن يجمعها في حياته بعيداً عن ذلك المسئول. ولذلك فهذه النوعية من بطانة السوء لا تطيق أن ترى أحداً غيرها في مكتب المسئول. ذلك أن دخول أي فرد إلى المسئول، إذا أثبت كفاءة ما، ففي ظن تلك البطانة أنها ستُحرم من مكانها بقرب هذا المسئول، ومن ثم فستُحرم من النعيم الذي تعيش فيه. ولذلك قيل:" السٍّفلة هم من يأكلون بالطبل والمزمار, وسِفْلةُ السِّفلة هم من يأكلون بدينهم ".
بطانة السوء هلاك للحكّام والمحكومين :
وقد كان من أسباب تدمير ملك فرعون وزيرُه هامان. قيل : إن فرعون ركن إلى قول موسى لما دعاه، وشاور امرأته فآمنت وأشارت عليه بالإيمان، فشاور هامان فقال : لا تفعل، بعد أن كنتَ مالكاً تصير مملوكاً، وبعد أن كنت رباً تصير مربوباً. وقال له: أنا أردك شاباً... فخضّب لحيته بالسواد، فهو أول من خضب." تفسير القرطبي " (11 / 201).
حاول أحد بطانة الخليفة سليمان بن عبد الملك أن يصده عن نصح سليمان: " اسكت، إنما أهلك فرعونَ هامانُ وهامانَ فرعونُ ".وكما كان الملأ مع فرعون مشتركين في الظلم الذي لازمه الفساد والإفساد،فهم أيضا مع فرعون في رفض الحق والامتناع عن قبوله،كما أنّهم في الإجرام سواء، يقول تعالى:{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}.
إنّ الملأ يشكّلون خط الدفاع الأول للطاغوت،وهم الذين يكافحون الحق ويُلحقون الأذى بالأنبياء وأتباعهم،ولهذا دعا الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم frown رمز تعبيري اللهم عليك الملأ من قريش، اللهم عليك أبا جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف أو ُأبي بن خلف) "صحيح البخاري" رقم (3014). ذلك بأنّهم حجر عثرة أمام تقدُّم الحق !.
عِبرةٌ من حكّام الزمان: ولقد كشفت الثورات الشعبية ضد زبانية " الفساد " بنوعية : المالي والإداري، مدى المرض المستشري في جميع مفاصل و أوصال الحكومات " الكرتونية " التي لا همّ لها إلا نهب ثروات الشعوب، وأكل خيرات الأمة بغير وجه حق.
بل تكشّف للأمة كلها بل للعالم بأسرة، كيف أن بعض أولئك الحكّام – الذين نزعت التقوى والرحمة من قلوبهم – يرضون لشعوبهم القهر والذل والفقر والمسكنة, ويسومونهم ويلات الغربة والخدمة والعبودية عند الآخرين، ويشاركون في تجويع وإقفار وإفقار مجتمعاتهم وبلدانهم. بينما الواحد منهم يملك من الأرصدة في الداخل والخارج، ومن شتى أنواع الأموال – الأبيض والأسود -, عشرات بل مئات المليارات !!. بل ومنهم من جعل نفسه كالوصي على شعبه المقهور، ينفق على الأندية الرياضية، والسهرات الليلية، والثورات الشيطانية في الشرق والغرب عشرات بل مئات الآلاف من الدولارات !! بينما شعبه فقير وبلده مدمَّر.
وانظر إلى حالهم اليوم وما وصلوا إليه, هل نفعتهم تلك الأموال ؟ أم أغنت عنهم تلك المناصب؟! أم شفع لهم بطانة السوء ومروجو الفساد ؟!!.قال الله تعالى :{ كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ }.و عن خولة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال frown رمز تعبيري إن رجالاً يتخوّضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة ). رواه البخاري.
كثيرًا ما ينتابنا شعور بالغم والهم والحزن من أولئك المتسلقين الذين يتقربون لأجل منافع شخصية محضة من أصحاب القرار في أي إدارة أو مؤسسة أو دولة كانت، إنهم بكل سهولة يصفون أنفسهم بأنهم أهل الثقة، أهل الحظوة والقرب، الذين يرون ما لا يراه الآخرون!! والحق أنني كثيرًا ما بحثتُ عن الأسباب السيكولوجية والأخلاقية التي تدفع هؤلاء إلى أفعالهم تلك، فوجدتُ أمرين يدفعانهم في طريقهم المجهول: فأما السبب الأول؛ فيكمن في الشعور بالنقص، وعدم الثقة في الذات. وأما الثاني: فالبحث عن المصلحة الشخصية المحضة التي تغمط حقوق الآخرين، ومن ثَم تقوِّي شوكتهم، وتجعلهم مثل "حكومات خفية" في ظل الشرعية المتعارف عليها بين الجميع، كل هذا في غياب التربية الإيمانية والعملية الصحيحة. لقد حسب هؤلاء أنهم يُحسنون صنعًا لأنفسهم وللآخرين؛ حينما يُقحمون رأيهم لأصحاب القرار، وحول رؤيتهم الثاقبة للآليات المثلى لإدارة أي مكان كان؛ فالدور المحوري لهم يكمن في كونهم -من وجهة نظرهم- أنشط العناصر الفاعلة في إنجاز العمل -الذي يعني (سرعة + جودة)- إنهم كما يروْن "لُقطة" لأي مؤسسة كانت، وغرة على جبين جميع الموظفين الآخرين الذين يفتقدون للباقتهم وحسهم المهني العالي...
هذه هي أوهامهم، وتلك هي فلسفتهم، فغايتهم في الحياة أن يكونوا من أهل الثقة، ومن دونهم مجموعة من التروس الجاهلة التي تدور في موتور المؤسسة الكبير. ومن اللافت أن الإسلام قد حذّر كل أمير ووالٍ ومسئول من بطانة السوء؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118]. ونرى الإمام ابن كثير -رحمه الله- يُفسر هذه الآية الكريمة بقوله: "يقول -تبارك وتعالى- ناهياً عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة، أي: يُطْلعونهم على سرائرهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خَبَالاً أي: يَسْعَوْنَ في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن، وبما يستطيعونه من المكر والخديعة، ويودون ما يُعْنتُ المؤمنين ويخرجهم ويَشُقّ عليهم"[1]. والآية وإن كانت مخصوصة بالمنافقين والكفار وغيرهم، لكنها تحذّر بصفة عامة من اتخاذ بطانة السوء وأهل الهوى ومعدومي الكفاءة والخبرة، كما حذَّر النبي كل أمير ومسئول؛ فقال : "مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ؛ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ،
إن الحديث الشريف ينصح كل أمير ووالٍ، فينبهه إلى البطانة الصالحة التي تأمره بالمعروف، وإن كان كلامها ونصيحتها ثقيلاً على النفس؛ ليطلب ودها، ويقربها إليه، كما يحذّره من البطانة الفاسدة، وإن كان كلامها محببًا إلى النفس، وأفعالها الظاهرة تُحسبك أنهم من أحب أحبائك. لكن اللافت في رواية الإمام النسائي، قوله : "وهو من التي تغْلِبُ عليه منهما"؛ أي: والوالي أو الأمير أو أي مسئول كان يتأثر بمن حوله، فإن كان مقربًا لأهل المعروف والخير كان منهم، وإن كان يسمع لأهل السوء، وبطانة الفساد فهو منهم؛ فـ"الرجل على دين خليله"[4].
وبالمناسبة فلا أحد يستطيع أن يتهم أهل الثقة الحقيقيين بشيء، ولا نستطيع أن نقول في حقهم نصف كلمة، إن كانوا أهل ثقة فعلاً، فإن كانوا ممن يتقنون أعمالهم، ولا يتلونون حسب المواقف والوقائع فلا غبار عليهم، ولا مشاحّة فيهم، لكن البطانة التي تحسب نفسها أهل ثقة، وهي في نظر الجميع ليست كذلك، فهي واهمة كل الوهم، تعيش في ظلمات وهي لا تعي، ثم تكون عواقب مشوراتها مدمرة!! ولقد حذّر النبي النمامين الذين ينقلون الوقائع والكلام بُغية الإفساد بين الإخوة، ولرغبة نابعة من حسد دفين لمحو الحب والاحترام المتبادل بين المتحابين، فقال : "أَلاَ لاَ يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيئًْا؛ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ"[5]. ولذلك فقد تنبّه كثير من أمراء وخلفاء الإسلام لهذا الأمر، وكانت القاعدة التي يفهمونها جيدًا، ويعملون بها تكمن في حسن الظن بجميع الرعية حتى يثبت العكس بالأدلة والشواهد والبينات، وعندها يعملون وفق ضوابط التشريع الحكيم، لا ما يمليه عليهم الهوى أو الانتقام؛ ولذلك لم يكن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان يسمح لأحد أن يداهنه، أو يتحدّث عن أحد من الرعية بدون وجه حق، أو يضيع وقته فيما لا يفيد؛ فقد رُوِيَ أن رجلاً "سأل عبد الملك أن يخلو به، فأمر عبد الملك مَن عنده بالانصراف، فلما خلا به، وأراد الرجل أن يتكلم، قال له عبد الملك: احذر من كلامك ثلاثًا: إياك أن تمدحني فإني أعلم بنفسي منك، أو تكذبني فإنه لا رأي لكذوب، أو تسعى إليَّ بأحدٍ من الرعية؛ فإنهم إلى عدلي وعفوي أقرب منهم إلى جوري وظلمي، وإن شئت أقلتك. فقال الرجل: أقلني. فأقاله"[6].
وإنه مما يلفت الانتباه حقًّا أن المنهج الإسلامي في التعامل مع البشر يقوم وفق فلسفة الميزان، أي معرفة حسنات المرء وسيئاته، ومعرفة تاريخه وحقيقة أخلاقه العامة، ثم التعامل معه وفق الغالب على أمره، هذا التعامل لا يكون وفق الهوى الشخصي المحض، بل يتكِئُ على شرع الله المنزّه، ولنا في تعامل النبي مع الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة أسوة حسنة، وقدوة طيبة للتدليل على ذلك.. فقد روى البخاري في صحيحه عن علي، قال: "بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ (مكان قريب من المدينة)، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً (أي امرأة في هودج) مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا. فَذَهَبْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ. فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ. فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ، أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ. فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ النَّبِيَّ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إلى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ بِمَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِيِّ، فَقَالَ النَّبِيُّ : مَا هَذَا يَا حَاطِبُ؟ قَالَ: لا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِمَكَّةَ؛ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَصْطَنِعَ إِلَيْهِمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ كُفْرًا وَلا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي. فَقَالَ النَّبِيُّ : إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ. فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. فَقَالَ: إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ. قَالَ عَمْرٌو (بن دينار أحد رواة الحديث): وَنَزَلَتْ فِيهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}"[7]. فهذه الحادثة الجليلة التي حدثت من صحابي سابق شهد بدرًا، قوبلت من رسول الله وهو القائد الأعظم لهذه الأمة بموقف كله حلم وأناة؛ حيث نظر النبي إلى تاريخ حاطب t فوجده مشرفًا مجاهدًا في سبيل الله، فقارنه بما اقترفه من جرم -وهو جرم لا ريب عظيم- فلم يكن منه إلا أن يعفو عنه، في ظل إلحاح من عمر ليقتله.
إن هذه النظرة المقاصدية للأمور الحياتية العامة ترشدنا إلى الآليات الحقيقية في التعامل بعضنا مع بعض؛ فالموقف رغم أهميته لا يجب أن يكون العامل الأول والأخير في الحكم على الشخص المعني؛ فتاريخه خير شاهد عليه، ثم شهادة الجميع عليه -لا ثلة قليلة اختزلت الرأي لنفسها- أفضل حاكم وشاهد. ولا ريب أنه كانت للبطانة الفاسدة دورها المحوري العظيم في انهيار الأمم، وإن مما يستلفت الانتباه في قصة فرعون مع موسى، أن أحد الأسباب الرئيسة التي أودت بحكمه وملكه، وانهيار قوته وهلاكه، تكمن في تقريبه لأهل الظلم والفساد والبغي، وعلى رأسهم هامان؛ فلقد ذكره القرآن الكريم في ستة مواضع: ثلاثة في سورة القصص، وواحد في سورة العنكبوت، واثنان في سورة غافر، كلها تصفه بالمجرم العاتي، متزعم البطانة الفاسدة التي وقفت أمام الحق، واستهزأت بالبرهان الواضح، والدليل البين الذي جاء به موسى إلى فرعون وملأه. ولنا في تاريخنا الإسلامي عشرات الأمثلة التي تؤكد لنا خطر البطانة الفاسدة على هذه الأمة؛ فابن العلقمي وزير المستعصم آخر خلفاء الدولة العباسية، كان له أثره البالغ في انهيار الخلافة، ومقتل أهل بغداد على بكرة أبيهم، وزوال الملايين من الكتب الشرعية والعلمية نتيجة إغراقها في النهر، وما ذلك إلا لتعاونه مع التتار الغزاة، فضلاً عن مشوراته الفاسدة التي قللت عدد الجيش من مائة ألف مقاتل إلى عشرة آلاف، ونهيه الناس أن يقاتلوا التتار، وغيرها من قراراته الهادمة[
ومما سبق نتيقن أن للبطانة دورها المحوري العظيم في قيام الأمم وانهيارها؛ ولذلك حذّر الإسلام كل مسئول من اتخاذ بطانة السوء، وأعوان الباطل، فهم المنتفعون الحقيقيون بهذا القرب، وتلك النجوى، وصدق معاوية بن يزيد بن معاوية حينما قال -عندما خلع نفسه من الخلافة وجعل الأمر شورى- لمن أرادوا أن يعدلوه عن قراره هذا، أو يجعلوا أمره في أهل بيته: "والله ما ذُقْتُ حلاوة خلافتكم، فكيف أتقلد وزرها وتتعجلون أنتم حلاوتها، وأتعجل مرارتها؟!"