أخبار البلد - ديمة طهبوب
ما زلت أذكر تمثال الجندي المجهول الذي كنا نتردد عليه كثيرا في رحلاتنا المدرسية فنتقافز ونلعب دون ادراك لقدسية التاريخ ومكانة الأشخاص الذين كتبوا صفحاته بدمائهم! وقد جاءت أجيال من بعدنا أشد انسلاخا للاسف، فالمعلمون ينظرون للرحلة المدرسية كفرصة للراحة من التدريس ولا يقوم الا قلة بالاستفادة وافادة الطلاب منها،أما السمت العام فأكل وشرب ولهو دون فائدة!
ما زلت أذكر قامته المنتصبة وذراعه الممدودة ووقفته المتحفزة وسلاحه، وأذكر تساؤلي البريء.. لماذا هو مجهول ولماذا نعطيه قيمة اذا كان مجهولا، ولكني فهمت رمزيته لاحقا كونه يمثل نخبة وشريحة ضحت وربما جهل البشر أسماءهم فكان هذا التقدير الرمزي لهم، ولكن ظلت عندي اشكالية في كلمة المجهول وظلالها السلبية وكنت ارى استبدالها بالجندي الرمز او البطل او اي صفة حميدة تتوافق مع الجندية
غير أن علاقة العرب بجيوش بلادهم وشرطتها ليست ايجابية على الاغلب، فهي إما محكومة بالخوف في ظل الانظمة الاستبدادية او التصور السلبي الذي يراها قوة ساكنة لا تتحرك في القضايا العربية والانسانية المشرفة بل صدأ سلاحها من قلة الاستخدام او نقرأ في الاعلام العالمي عن مساهمتهم في قضايا الحجز والتعذيب والخطف والاستجواب اللاانساني بالوكالة عن أمريكا التي تقيم سجونها في بلاد العرب حتى تنجو من المساءلة القانونية في بلادها وتهمة انتهاك حقوق الانسان! ان نظرة بسيطة لما كانت تقوم به الجيوش والشرطة في ميادين الدول العربية حديثا في الثورات والدماء التي اراقوها لكفيل بمعاينة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه الطبراني»
«سيكون في آخر الزمان شرطة يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله فإياك ان تكون من بطانتهم».
الا أنه يحدث أن تخرج أمثلة تعيد الامور الى نصابها وتمسح عن المشهد الضباب والسواد الذي يكتنفه فلا تملك عندما تسمع قصة ذلك الجندي البطل او الشرطي الشجاع الا ان تقول «آخ، لسه الدنيا بخير» ويكون ذلك الموقف بمثابة قشة الغريق التي تعيدك الى ضفاف الايمان بعدما اعتقدت ان الدنيا اصبحت غابة كبيرة لا يعيش فيها الا المتوحشون والمتجردون من الضمير.
عمر البلاونة، الرجل الخارق خاصتنا، السوبر مان الاردني، عملاق القصص الخالية، رجل المهمات الصعبة الذي أظهر أجمل وأرقى ما في الاردنيين من دين وخلق واصالة وشهامة نسمع عنها عن الاجداد في القصص والسير والامثال الشعبية.
أي أم أنجبتك يا عمر أم أي أب رباك أم أي عائلة احتضنتك أم أي مدرس علمك ام اي قرية سكنت فيها ام اي اصحاب صادقوك، من أنت وكيف تكونت بهذه الصورة لتفعل ما فعلته فموقفك ليس وليد لحظة إنما هو تشكيل وتكوين متكامل ظهرت ثماره في عملية الانقاذ،
ست عشرة ساعة في البحر وأخرجك الله من فم الموت مع الاطفال لتضرب لنا مثلا عن الالتزام في اقصى صوره، عن الامانة في اعلى معانيها، عن التفاني عندما يبلغ مداه، لم يساورك في قمة العنت والتعب والاجهاد واليأس لحظة تفريط بل ظللت حتى اللحظة الاخيرة تقوم بواجبك وتقول للاطفال ماذا يفعلون في حالة غرقت انت او فرقكم الموج لينجيا بنفسيهما، عجيب أنت يا عمر، فريد أنت يا عمر، لم تعذر نفسك وقد كان لك عذر المحاولة، لم تصبك الانانية التي تصيب البشر عندما تكون ارواحهم على المحك او مهددة، كيف صارت روحك رخيصة عليك لتنقذ طفلين بحسب السياسة والجغرافيا وسايكس بيكو لا يمتان لك بصلة سوى عروبة لم يعد لها قيمة ولا معنى ولا وجود الا في خيال الحالمين؟! هل احتضنت فيهم العراق الضائع وطلبت من البحر الاردني الفلسطيني أن يحنو على مأساتهما؟ هل دفأتهما بالحضن الاردني الذي قد يمتد ليسع كل احزان اخوته العرب ويسقط كل حسابات السياسة والخيانة والنذالة؟! كم استغثت بالله في ست عشرة ساعة وكم أحسست بمعيته وانتم تخرجون من بطن البحر كما خرج يونس من بطن الحوت؟!
كل ما نعرفه أن قصتك في زمننا هذا عجيبة ردت الينا الروح وسنتحدث بها ونرويها مثالا عن التضحية والتفاني ولطف القدر غير أننا نرجو ان يكون لك مكان في صفحات كتب ابنائنا لانك تستحق مثل هذا الخلود مثالا على الاردني الشهم والجندي البطل، نأمل ألا يسقطوك من الذاكرة كما فعلوا بالفرسان الاوائل والجنود العظماء مثل فراس العجلوني، نأمل أن أمثالك الاغلبية ونأمل ان نراك في كل مكان وزاوية من وطننا الحبيب (لو حررت لي مخالفة سأتقبلها بصدر رحب وثقة اني استحقها فمثلك لا يملأ الدفاتر من عرق اخوانه المواطنين بغير حق وقد بذل حياته من اجلهم في يوم ما).
عمر البلاونة ايها الجندي الذي فعل الاعاجيب برتبته البسيطة دون انتظار شكر من أحد الا رب العزة، ممنونون لك أن أعدت لنا الايمان والامن وان الخيرية باقية في الناس وان الاردن أرض نباتها وانتشارها.
بالنسبة لي لم يعد الجندي المجهول مجهولا الآن.. إنه عمر البلاونة.