تلقت الدبلوماسية المصرية ضربتين قويتين خلال الأيام القليلة الفائتة، عكستا حجم المصاعب والعقبات التي تواجهها القاهرة في مسعاها لاستعادة دورها القيادي بعد ثلاثين عاماً من الجمود والركود ... الأولى، جاءتها من الغرب، حين اصطدم المسعى المصري لاستحصال قرار عن مجلس الأمن بالتدخل العسكري في ليبيا ضد "الإرهاب” وتوسيع ولاية "التحالف الدولي” ليشمل ليبيا وألا يقتصر على العراق وسوريا، فضلاً عن رفع الحظر عن تصدير السلاح لقوات حفتر وحكومة طبرق ... والثانية، جاءتها من أقرب حلفائها في المنطقة، مجلس التعاون الخليجي الذي انتصر للدوحة في صراعها الخفي والمحتدم مع القاهرة، على الرغم من صدور "بيان ثانٍ” عن الأمانة العامة للمجلس حاول امتصاص "صدمة” البيان الأول.
لكن ما يجعل وقع الصدمتين أقل حدة وتأثيراً على النظام المصري، أن روسيا أعلنت وقوفها التام إلى جانب النظام المصري في حربه على الإرهاب، وصولاً حد الاستعداد للانخراط في عمليات حصار بحرية اقترحتها القاهرة على امتداد الشواطئ الليبية الطويلة ... كما أن بيان "النفي” أو "التوضيح” الثاني الذي صدر عن الأمانة العامة لمجلس التعاون، سعى في تقليل وقع "الصدمة” الذي شكلها البيان الأول، والذي تقول المصادر، أنه أحدث ارتباكاً شديداً في الخارجية والقصر الرئاسي على حد سواء، بالنظر لما انطوى عليه من مؤشرات دالّة على عمق التحولات التي تطرأ على مواقف عواصم خليجية مهمة، أهمها الرياض بالطبع.
منذ التغيير الذي وقع في الرياض، سرت تكهنات عديدة عن الأثر والتداعيات التي سيحدثها على مسارات السياسة الخارجية السعودية، وتناولت وسائل إعلام ومراكز أبحاث هذه التحولات بالبحث والتمحيص ... يومها قيل إن المملكة ومن موقع التشديد على "أولوية التهديد الإيراني” لأمنها واستقرارها، وتقديمه على خطر "الإرهاب” في سلم أولوياتها، ستقترب أكثر من محور الدوحة – أنقرة – الإخوان المسلمين، وأنها وإن كانت ستحافظ على علاقات وطيدة مع مصر، بالنظر لأهمية الأخيرة في منظومة الأمن الإقليمي الخليجي، ألا أن العلاقات السعودية – المصرية، ستغادر "شهر العسل” الطويل الذي أعقب وصول السيسي إلى حكم البلاد فعلياً في الثالث من تموز 2013 ورسمياً بعد الانتخابات الرئاسية.
وكان واضحاً أن الأسابيع القليلة الفائتة، قد سجلت انتهاء مفاعيل الوساطة السعودية بين قطر ومصر، فالدوحة عادت لشن حملاتها عبر منابرها الإعلامية المتعددة على نظام الرئيس السيسي، والجزيرة – القناة العامة، تحولت في مجموعها إلى الجزيرة مباشر – مصر، التي أوقفت تحت الضغط السعودي وكشرط لإتمام المصالحة السعودية – القطرية وليس المصرية – القطرية فحسب ... الشيخ الإشكالي يوسف القرضاوي، عاد لمزاولة أعماله كالمعتاد، والرجل ما انفك يطلق الفتاوى المحرضة على "مقاومة” النظام ودعم خصومه، مع إن "إسكاته” كان شرطاً من شروط إتمام المصالحات المذكورة، إلى أن وصلنا إلى الاتهامات المصرية لقطر بدعم الإرهاب والرد القطري "الجريء” عليها، والذي ما كان ممكناً لولا اطمئنان الدوحة لطبيعة التغييرات التي طرأت على مواقف الرياض وأولوياتها وتحالفاتها.
صدر البيان الخليجي الأول، وكان كالطلقة التي وإن لم تصب العلاقات المصرية – الخليجية في مقتل، إلا أنها طوت صفحة التبني والاحتضان السعوديين للقاهرة، وأعلنت انتهاء شهر العسل بين البلدين ... لكن البيان الثاني الصادر عن الجهة ذاتها، أعاد وضع هذه العلاقات في سياقاتها الجديدة، فهي مهمة وضرورية وتمليها المصالح العميقة المشتركة، بيد أنها لا تتقدم على العلاقات الخليجية الداخلية بوصفها أولوية لحفظ وحدة المجلس ورص صفوفه في المواجهة مع "أولوية الخطر الإيراني” وضرورة حشد الصفوف للتصدي له في ساحاته المتفجرة من اليمن إلى سوريا ولبنان مروراً بسوريا بالطبع.
لقد شهدت العلاقات السعودية القطرية تطوراً ملحوظاً في الأسابيع القليلة الفائتة، عكستها الزيارات المتبادلة على أرفع مستوى بين البلدين ... أمير قطر زار المملكة مرتين منذ رحيل الملك عبد الله بن عبد العزيز، والأمير محمد بن نايف، التقى الأمير تميم مرتين خلال هذه الفترة، وجعل من الدوحة محطته الأولى في زياراته الخارجية بعد توليه موقع الرجل الثالث في هرم القيادة السعودية، وهذا ما قرأته الدوحة جيداً قبل أن تقرر الإفلات من متطلبات المصالحة وشروطها، والرد بقوة على الاتهامات المصرية وصولاً لاستدعاء السفير للتشاور.
إعادة تعريف العلاقات المصرية – السعودية جارٍ على قدم وساق، وأحسب أن كلا البلدين ينظر في آفاق هذه العلاقات وحدودها وأولوياتها المشتركة ... وهذه العملية ستنسحب على علاقات القاهرة مع عدد من العواصم الخليجية الأخرى، من بينها البحرين، التي ينتمي إليها الأمين العام لمجلس دول التعاون، والسؤال الآن ماذا عن العلاقات بين القاهرة وأبو ظبي، التي ما زالت الأقرب لنظام السيسي والأكثر دعماً للعهد المصري الجديد، والأكثر انفتاحاً وتأييداً لسياساته وخطواته في الحرب على الإرهاب، بما في ذلك، مقارباته الليبية... ماذا عن علاقات القاهرة مع بقية العواصم الخليجية.
خلاصة القول: لا تدهور ولا انهيار في علاقات مصر مع السعودية وبقية دول الخليج باستثناء قطر، لكن العصر الذهبي لهذه العلاقات يشارف على نهايته إن لم يكن قد انتهى بالفعل، والأرجح أن ذلك، سينعكس على حركة التحالفات والمحاور في المنطقة، والتي من المتوقع أن تشهد تبديلاً وتغييراً في المواقف والمواقع والأولويات.