في المرات القلائل التي زرتُ فيها القدس في حياتي، وصليتُ في المسجد الأقصى والصخرة المشرفة، كنتُ أختم زيارتي بنظرة طويلة إلى ذلك الصرح القدسي.. نظرة يغلفها الخوف من أن تكون تلك هي النظرة الأخيرة والوداعية.. مُستذكرة توجس وخوف الشاعر الفلسطيني "عبد الرحيم محمود" الذي قال:
المسجد الأقصى، أجئتَ تزوره؟ أم جئتَ قبل الضياع تودعه؟؟
منذ أيام ومن هضبة مطلة على الضفة الغربية، رأيتكِ يا قدس ترقدين هناك كما كنتِ منذ آلاف السنين.. في فلسطين.. التي تنبض بكِ ولكِ..
شهدتِ ما شهدتِ.. ولكنكِ بقيتِ رمزاً معذباً كما المسيح.. ونوراً إلهياً لا يراه إلا من رأى فيكِ ما وراء هذا الوجود..
متألمة أنتِ اليوم.. تهتزين كالحسرة بين الأرض والسماء..
في مآقيكِ يتحول الدمع إلى جداول وأنهار ليصب في بحر أحزانكِ..
تتعمق فيكِ الجراح وأنتِ ترين مسجدكِ ينسلّ منكِ..
لا تنظري إلينا أرجوكِ..
فنحن لسنا سوى سراب..
إن شجرة زيتون واحدة غُـرسَت في طوركِ منذ مئات السنين..
أهم منا جميعاً مجتمعين..
لا تنتظرينا يا قدس...
بل أطلقي العنان لدموعكِ.. علها تكون لكِ راحة وعزاء وسلوى..
إن كنا يوماً عاهدناك بالذود عنكِ بأرواحنا وبكل ما نملك..
فأنتِ اليوم في حلّ من كل عهودنا..
فنحن أوهى من أن نعدكِ بشيء.. أو نعد حتى أنفسنا..
لا تنتظرينا اليوم..
لقد تجمدت فينا العيون.. وماتت في وجداننا المشاعر..
فقدنا قدرتنا على الاحتجاج والرفض والتنديد..
فقدنا كل شيء.. حتى احترامنا لذاتنا..
لا تنتظرينا.. يا قدس، فنحن اليوم مشغولون..
نكتوي بنار المعاناة.. من المحيط إلى.. المحيط
نحن نعيش عصر الطوائف الذي تهتز فيه الأرض..
نفقد فيه الأوطان.. وتنفرط فيه البلدان..
كالمسبحة.. الواحدة تلو الأخرى..
نحن اليوم ندفع غالياً ثمن تخاذلنا وتجاهلنا لكِ لسنين وعقود..
مضينا في هذه الحياة نتجنّب سماع أنينكِ أو رؤية نزيف جراحكِ..
أوصدنا أبوابنا أمام أخباركِ الأليمة..
لأنها كانت ستكدر علينا لذة غيبوبتنا..
لا تنتظرينا اليوم..
فنحن مغمورون بالعذاب..
عله يطهرنا ويصهرنا لنُبعَث من جديد..
في يوم جديد..
لا تنتظرينا، يا قدس،
إلا حينما تسمعين أننا وُلِدنا من جديد..
إلا حينما تعلمين علم اليقين
أننا أصبحنا كلنا عُمر
وكلنا صلاح الدين
سناء عزت أبو حويج
11 نوفمبر/تشرين الثاني 2014