ولم يكن في استطاعة أحد أكثر من الكاتب الصحفي/ حسنين هيكل أن يروي القصة الحقيقية لصراع جمال عبد الناصر مع المرض والآلام.. ورغم ذلك فقد احتاج هيكل إلى أربعة أسابيع بعد رحيل عبد الناصر. ليروي – في بصراحة – هذه القصة التي عكست وجهًا نادرًا من وجوه قوة وعناء جمال عبد الناصر وعمق إيمانه بمسئوليته الكبيرة..
وفي تلك الفترة كان الأطباء قد تأكدوا من خطورة الحالة الصحية للرئيس جمال عبد الناصر.. واكتشفوا متاعب قلبه.. وانسداد شرايين ساقه.. وأخيرًا وافق تحت إلحاح أن يحصل على إجازة إجبارية لمدة أسبوع في أسوان كما أن الإجازة لم تستمر سوى يوم واحد.
فقد مات عم عبد الناصر..
وركب الرئيس القطاع من أسوان إلى الإسكندرية ليقوم بتشييع جنازة عمه، ثم يعود مباشرة إلى القاهرة.. ناسيًا أمر الإجازة التي يصر عليها الأطباء! ويكمل هيكل رواية القصة:
"وجلسنا معه مرة..
وكلنا اعترض على الطريقة التي يعمل بها..
ما بين خمسة عشرة وثماني عشرة ساعة في اليوم.
وكان بعض الأطباء معنًا..
وقال أحدهم إنه علم من السيد سامي شرف أن الرئيس يسأل عن قائمة الخسائر في الجبهة كل ليلة.. وأن هذا السؤال يكون الأخير في عمل النهار والليل. قبل أن ينطفئ النور في غرفة نومه!.
وقال عبد الناصر في بساطة: ولماذا لا أسأل عن ذلك.. أليس طبيعيًا أن أعرف؟
وقال الطبيب ولعله الدكتور فايز منصور: ألا يمكن تأجيل هذا السؤال إلى الصباح؟
قال عبد الناصر: لو أجلته إلى الصباح لما استطعت أن أنام.. سوف أظل أحسب وأخمن طول الليل.. لا أستطيع أن أنام إلا بعد أن أعرف وأطمئن.. إن المدافع والدبابات لا تهمني ولكن تهمني الخسائر في الناس.. إن الناس شيء كبير وعزيز. كل جندي وكل ضابط هناك له أسرة.. له زوجة وأولاد وربما له أم وأب ما زالا على قيد الحياة.. وبالتأكيد له أقارب وأصدقاء.. لا يمكن أن نفكر في الناس بطريقة مجردة. الناس هم أغلى شيء!
ثم سافر جمال عبد الناصر إلى موسكو المغطاة بالثلوج..
وكان عمله فيها من أعظم الضربات الإستراتيجية.
وتوقفت غارات العمق.
لكن التفتت في الجبهة الشرقية بدأ تعليقه.
يقول هيكل:
وتحمس الرئيس عبد الناصر لفكرة عقد اجتماع في ليبيا على أساس الطرح القومي للمعركة استجابة لنداء معمر القافي وكانت محبته له غلابة وكان يرقب حركته السرية واندفاعه القوى. ويسمعه أحيانًا وهو يخطب.
ويقول له في محبة: معمر.. أنت تذكرني بشبابي!.
وتلقى مشروع روجرز وهو في ليبيا وفكر فيه طويلًا.. وكان اتجاهه إلى قبول التحدي وانتظار نتيجته.
وسافر إلى موسكو بعد ذلك في زيارة رسمية.
وجاءه الدكتور شازوف يرجوه فور الانتهاء من محادثاته أن يذهب إلى مصحة "بربيني" لإجراء كشف شامل جديد عليه.
وقال له شازوف: إنني أفزع حين أتابع برنامج عملك وزياراتك!
وتم الكشف الشامل عليه في "بربنيي"..
وجاء شازوف.. ومعه الدكتور فلادمير.
يقولان له: من الضروري أن يبقى الرئيس هنا شهرًا!
ثم ذهب شازوف إلى الرئيس بريجينيف يرجوه الإلحاح على الرئيس بالبقاء.
واقتنع عبد الناصر..
وذلك بعد أن رأى تقارير الفحص. وعده بأسبوعين فقط..
وقال لشازوف: إنني مضطر للعودة من أجل المؤتمر القومي لا بد أن أكون في مصر قبل 20 يوليو.
وعاد إلى مصر..
عاد إلى معركة من أعنف المعارك:
وقف أمام المؤتمر القومي يتكلم ويقبل مشروع روجرف لأسباب قدرها وحسب حساباتها.
وأحس أن هناك تساؤلات مطروحة في العالم العربي..
وقرر أن يجلس في اليوم التالي أمام المؤتمر لمناقشة مفتوحة تذاع على الراديو والتليفزيون!
ثم جلس إلى المؤتمر في اجتماع سري..
أوضح فيه كل الخطط والحقائق بصراحة كاملة..
ومضت الحوادث وهو لا يتوقف..
وانفعالاته تلاحق جهده.. فقد كان يعمل بكل مشاعره.
وبدأ يحس بالإرهاق يضغط عليه..
وبالآلام تشتد..
وقرر أن يذهب إلى مرسي مطروح.. في إجازة لأسبوع كامل.. واتفقنا أن لا يتصل به أحد.. مهما كانت الظروف!
ويقول هيكل في نهاية الحكاية الحزينة:
لكن الأزمة في الأردن انفجرت..
وبقي الكل مترددًا في الاتصال به هناك. أول أيام الأزمة.
لكنه عند المساء كان قد سمع من الإذاعات بما يجري.
واتصل هو!
وطلب موافاته أولًا بأول بالتفاصيل..
وجاءه معمر القذافي في اليوم التالي! مرسي مطروح.
ونقلت إليه بالتليفون عدة رسائل جاءته من ياسر عرفات.
وقرر أن يبعث الفريق صادق إلى عمان. برسالة منه إلى الملك. ثم انضم إليه في الرسالة الثانية إلى الملك. معمر القذافي وجعفر النميري.
وعاد إلى القاهرة من مرسي مطروح.
وكان المؤتمر الكبير الذي التقى فيه ملوك ورؤساء الدول العربية لبحث أزمة الأردن على وشك أن ينعقد.
ومن سيارته على الطريق الزراعي بين الإسكندرية والقاهرة. كان التليفون في يده. وكان يرتب للاجتماع.
وكان أطباؤه جميعًا في حالة ثورة كاملة!
وكانت كلمتهم له بالإجماع تقريبًا: إن الأمور
لا يمكن أن تستمر على هذا النحو.
وحين نقل إليه الدكتور الصاوي رأيهم. وأنه يوافقهم في غرفته بفندق الهيلتون. الذي كان مقرًا للاجتماع الكبير.
وكان رده بغضب:ماذا تقولون؟في كل دقيقة يمكن أن يقتل عشرات من الرجال والنساء والأطفال في عمان.ألا ترون أننا في سباق مع الزمن؟!
ولا يملك هيكل وهو الكاتب الذي تعود على أن تكون كلماته موضوعية تخاطب العقل قبل المشاعر إلا أن يخضع لتأثير مشاعره الغارقة في الحزن لرحيل جمال عبد الناصر.
في النهاية..
وبكلمات أقرب إلى الدموع يختم هيكل حكاية رحيل عبد الناصر باكيًا أو قائلًا:
"رباه " كأنه كان يعرف!
كنا بالفعل في سباق مع الموت!
لماذا عجزت عن التصديق والتصور إذن أيامًا بعد الرحيل؟
وكيف لم أصدق وكنت من شهود ملحمته الرائعة في الصراع مع الألم؟!
وكيف وقد كنت واحدًا من الذين وقفوا بجوار فراشه لحظة الرحيل؟!
لا أعرف..
ثم أذكره وهو يقول مرات عديدة.. أثناء مناقشات طويلة كانت تجري بيننا.
أنت تؤمن بالعقل أكثر مما ينبغي.. في بعض الأحيان هناك أشياء لا بد أن نأخذها كما هي.. ببساطة وبغير أن نعقدها.. هناك أسئلة بدون جواب.. وستبقى دائمًا بدون جواب!.
وكنت صادقًا يا معلمنا!
ولعل هذا المقال لهيكل عن رحيل عبد الناصر سيبقى هو الآخر.. أكثر كلمات هيكل قربًا إلى نفسه وقلبه ووجدانه!
قال هيكل: إن التاريخ فوق مشاعر الأفراد!
وكذا التاريخ أيضًا ليس الأحداث.. وإنما هو الناس الذين يصنعون هذا الأحداث!
وفي بداية هذا المقال التاريخي قال هيكل عن
عبد الناصر: إنه بكل عظمته لم يصنع مصر.. ولكن مصر بكل عظمتها هي التي صنعته ولو ولد في غير مصر لما ظهر.. ولو ظهر في غير مصر ما استطاع.
دوره البطولي كله جزء من قدرها التاريخي..
إن دور البطل ظل مرة مؤقتة في التاريخ ويجب أن يكون كذلك. لأن الأصل والأساس. الباقي والخالد. هو الشعب.
وأن يكون دور البطل ظاهرة مؤقتة في التاريخ فذلك مما يعني أنه صدفة وإنما البطل في الأمة الحية ظاهرة طبيعية. وإن لم تكن كظواهر الشروق والغروب كل يوم!
إن البطل إنساني تتسع همته لآمال أمته..
وهي في فترة خطر.. تستودعه كل سرها.. وتعطيه كل طاقتها.
لكي يتقدم باسمها.. ويواجه ويزيح ويقتحم.
وهي بعد الخطر سترد سردها.. وتأخذ طاقتها.. لأن مسيرتها تصبح بالضرورة أعرض من دور البطل..
وكأن البطل في التاريخ جسر عبور لأمته..
من القلق إلى الشجاعة..
من الحيرة إلى التقدم..
مما كان إلى ما يجب أن يكون.. أو في اتجاهه على الأقل..
وقد يقال إنه كان في دور جمال عبد الناصر قيمة..
كلنا نتمنى من الله أن يتركه بيننا قد يقود زمن التحرير ويشهد يومه.
ثم نتذكر أن جمال عبد الناصر أدى في الحقيقة.. كل دوره أو معظمه.
وعندما نسأل أنفسنا: ما الدور الذي حققه عبد الناصر؟
فإننا يجب أن نتشرف أنفًا واسعًا.. ذلك أن المعركة التي نخوضها الآن.. أزمة سوف تمر.. وحدتها في وجداننا تجيء من أننا ما زلنا فيها.. لكنها سوف تمضي. كما مضت قبلها الأزمات في تاريخ الأمم الحية.
ودور عبد الناصر عندما نتشرف الأفق الواسع.. يتجاوزها في الحقيقة.
إن هناك إنجازين بارزين في دور جمال عبد الناصر.. من وجهة نظر الحكمة العامة للتاريخ.
أولهما: أنه وصل مصر بأمتها العربية.
ثانيهما: أنه وصل أمته العربية بالعالم وبمصر.
هذا ببساطة.. هو دوره.. وتحته تتدرج كل التفاصيل.. وتتعدد معارك الحرية التي لم تتوقف يومًا قبل رحيله.
ولا أظنها سوف تتوقف بعد الرحيل!
بعد أن ألقى أنور السادات بيان رحيل جمال
عبد الناصر في الإذاعة..
كان أبو عودة وزير الإعلام والثقافة الأردني في مكتبه في عمان.
وسمع الخبر بنفسه..
فأسرع يرفع سماعة التليفون ويطلب الملك حسين..
قال له: جلالة الملك.. البقاء لله الرئيس جمال عبد الناصر توفي. وأذاعت القاهرة النبأ.
مرت لحظة صمت..
ولا يعرف أية تعبيرات ارتسمت على وجه الملك حسين في تلك اللحظة.. كان قد عاد إلى عمان قبل ساعات قليلة.. في مؤتمر الملوك والرؤساء العرب.. وكان جمال عبد الناصر على حد قول الأردنيين أنفسهم "أنقذ جلالة الملك في المؤتمر الكبير"
وظل وزير الإعلام الأردني صامتًا على الناحية الأخرى..
وأخيرًا رد الملك حسين بصوت متهدج يغلبه الانفعال: يا الله..
مات الرجل.. عندما بدأت الأمة العربية تستفيد منه.. في رحمة الله يا جمال!
الفصل الرابع
نزيف الدم العربي
الذي أوقفه عبد الناصر قبل أن يموت بيوم!
عمان.. مدينة للموت وآلاف الجثث والجرحى في الشوارع!
جولدا مائير.. تطلب من الرئيس الأمريكي المزيد من السلام الإسرائيلي!
احترقت أعصاب عبد الناصر.. من أجل وقف القتال في الأردن!
يقول المصريون: "الأعمار بيد الله".
وهي مقولة يؤمن بها كل مسلم بوجه عام.. لكن إذا كان مقدرًا للرئيس جمال عبد الناصر أن تنتهي حياته يوم 28 سبتمبر 1970 لكن الدنيا كلها كانت تعرف أن زعيم العرب.. الذي لم تكسره هزيمة 5 يونيو بقدر
ما أثرت فيه وعليه. كان يتحمل ضغوطًا هائلة يصعب أن يتحملها بشر بعد هذه الهزيمة.
كان الرجل رغم المرض والآلام المتزايدة يحاول أن يرتفع فوق آلامه الشخصية. في محاولة مضنية لتضميد جراح وطنه وأمته.
فيما كان يعمل على أن تستعيد القوات المسلحة المصرية قوتها من السلاح والرجال كان في نفس الوقت يسعى للم الشمل العربي.. ووضع القضية الفلسطينية في صدارة كل القضايا العربية.
لكن القدر كان يخبئ لعبد الناصر المزيد من الآلام النفسية العنيفة – غير آلام المرض – في الأيام التي تجاوزت العشرة والتي سبقت آخر يوم في حياته.
كانت هناك مجزرة عربية لا تتوقف في الأردن.
قد بدأت ـ قبل شهر ـ عندما أحدثت السلطة الأردنية عدة تغييرات في قيادات الجيش الأردني. وأبعدت في خلالها العناصر المعروفة تبعًا لطفلها الثورة الفلسطينية. وفي نفس الوقت تتصاعد محاولات الإساءة إلى سمعة المقاومة الفلسطينية بين جماهير الشعب الأردني.
الأحداث الرامية فجأة..
وخلال الأيام التي سبقت رحيل جمال عبد الناصر تفجرت أنهار الدم الفلسطيني في عمان وأربد وجرش وعجلان والزرقاء.. وفي معظم أنحاء الأردن.
وامتلأت شوارع عمان بالآلاف من جثث الأبرياء من الأطفال الكبار والنساء والشباب.. وسادت رائحة الموت كل مكان بينما أزيز الرصاص ودوي انفجارات القنابل لا يتوقف!.
كان الموقف ميئوسًا منه!
وقال ياسر عرفات فيما يشبه الصرخة: الغدر فظيع ووحشي.. إنها موقعة تشبه موقف كربلاء وهناك تصفية وإبادة تامة للشعب الفلسطيني.. هناك خمسة وعشرون ألفًا بين قتيل وجريح وليس هناك خمسة وعشرون ألف فراش.
لقد أخلت السلطات عمان من الأردنيين قبل الضرب.. ثم حاصروها بثلاث فرق ويقدر عدد الجنود بأربعة وسبعين ألف جندي.. أغلبهم تم سحبهم من خطوط الجبهة إلى عمان.. وقد تم القبض على 14 ألف شاب فلسطيني من بيوتهم. فقط لأنهم قادرون على حمل السلاح.. ولكن ليس لهم سلاح!.
وكتب جرارد ميل كيمب مراسل "الديلي تليجراف " البريطانية الذي شهد الأحداث الجارية في عمان. يقول: إن عمان مليئة بالقتلى والجرحى.. والنقالات تكفي فقط عشرهم.. وقد قال لي جان بير هرش مندوب الصليب الأحمر إن التقديرات المبدئية تقول إن عدد القتلى في عمان قد وصل إلى نحو سبعة عشر ألفا من المدنيين.
وقال الفدائيون الفلسطينيون إنهم فقدوا ثمانية آلاف. وكانت سيطرة الفدائيين كل على جبل الحسيني وكانت المنطقة نفسها مكدسة بالأطفال والنساء.. وكان يتحتم أن يلقى الكثيرون منهم العناء.. وما زاد من خطورة الموقف.. أن هذه المناطق كانت تضم مخازن ذخائر.. وقد شاهدنا الشوارع وهي مليئة بالسيارات المحترقة وحاملات الجنود التي تشتعل فيها النيران.. وتساقطت أعمدة التليفونات وتدلت منها الأسلاك.. والأرض مليئة بطلقات الرصاص النارية.
إن عمق المأساة لا يبدو من خلال المعارك..
والمأساة تبدو بوضوح في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين التي نسفتها القوات الأردنية.. وأبادت الآلاف من سكانها من النساء والأطفال.
ولقد حارب الفدائيون داخل عمان بشجاعة وبسالة لم يكن يتوقعها أحد.
كان الغرب يصم الآذان في كل مكان في عمان. وكانت طريقة الجيش في معالجة الموقف عجيبة.. أي نافذة في أي بيت تطلق منها رصاصة واحدة.. فإن هذا معناه تدمير البيت بأكمله على من فيه بالمدفعية الثقيلة!.
أما الصحفي الأمريكي "جون بيولوشي" فقد كان في عمان وكتب تقريرًا صحفيًا يقول فيه:
لقد حولت المعارك ضد الفدائيين مدينة عمان المزدهرة الجملية إلى مدينة للجثث والجماجم والقحط والمجاعة والرعب أيضًا.
طلقات النيران كانت مستمرة وأنا في طريقي خارج المدينة مع أول مجموعة من الصحفيين الأجانب تغادر عمان.. مئات المباني انهارت.. ومئات أخرى احترقت عن آخرها.
القتلى بالمئات في الشوارع.. والجرحى يصرخون طلبًا للنجدة دون مجيب!.
ولا أحد يستطيع أن يقدر بدقة عدد الجرحى وصل 15 ألفًا بعد تقدير قريب من الدقة.
والأهالي لا يجدون الطعام.. وإذا خرجوا يطلبونه تصرعهم الرصاصات المنطلقة في كل جانب وإذا نجوا من الرصاص وجدوا محال الطعام قد نهبت فهي خاوية تمامًا.
لا كهرباء.. لا ماء.. لا طعام.
وخطر الأمراض ينتشر. والأوبئة قد تهاجم الأردن في أي وقت. والفدائيون ما زالوا في أول مكان إنهم يقاتلون بشجاعة وعنف وشراسة. رغم وجود بندقية 106 مللي في أيدي جنود الحكومة.. الفدائيون يسيطرون تمامًا على المناطق الوسطى من عمان.. ذخيرتهم كافية.. والكثيرون منهم وضعوا مناديل على وجوههم حتى يغادروا رائحة الموت في عمان.
والمدفعية مستمرة ليلًا ونهارًا..
وإنها تملأ الجو دمارًا بالنهار.. وتشعله نارًا بالليل!.
كانت أحداث عمان بالفعل جرحًا عربيًا داميًا..
ولم تكن هذه فقط هي كل خطورة الوضع.. فقد كان الشرق الأوسط يشهد في نفس الوقت أحداثًا أخرى كان لها مغزاها ومعناها.. وخطورتها أيضًا..
فقد أقلعت من إسرائيل طائرة تحمل رئيسة الوزراء جولدا مائير إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتطلب شحنات جديدة من الأسلحة الأمريكية لمواجهة ما أسمته "بخطر القوة العربية المحتملة".
والتقت جولدا مائير الرئيس الأمريكي نيكسون ووزير خارجية ويليام روجرز.. وقالت الخارجية الأمريكية إن اللقاء خصص لبحث "الموقف المتفجر في قناة السويس وخط المواجهة مع العدو مصر".
وشارك الكثيرون: هل كان تفجير الأحداث في الأردن محاولة أو مؤامرة لتوريط مصر في حرب أخرى؟
وأعلنت وزارة الدفاع الأمريكية عن تحريك أسطولها وقواتها الجوية المحمولة لتأييد موقف إسرائيل.. وإذا لزم الأمر بالتدخل الفعلي في عملية عسكرية لضرب المقاومة الفلسطينية وتصفيتها بالتنسيق مع القوات البريطانية في قبرص والتي وضعت في حالة تأهب.
وفي نفس الوقت..
عقدت الحكومة الإسرائيلية سلسلة اجتماعات وحشدت إسرائيل قواتها على الحدود.. تحسبًا لكل ما يمكن أن يطرأ في أحداث الأردن وأن ترجح كفة على أخرى.. بما ليس في صالح إسرائيل!.
وكانت أبعاد هذه الصورة واضحة بكل تفاصيلها عند جمال عبد الناصر. وكان في البداية حريصًا على الحفاظ على الأردن بعيدًا عن الأحداث.. وخاصة حلف بغداد.. كان حريصًا على الحفاظ على الكيان الأردني والأرض الأردنية.. وعندما تفجرت الأحداث والحوادث في عمان. لم يملك عبد الناصر سوى أن يعطي كل فكره وجهده لموقف القتال في الأردن.. وإنقاذ الرجال والنساء والكبار والأطفال في مواجهة الموت.
وتجسد الضمير العربي في مؤتمر القاهرة. للملوك والرؤساء العرب لإنقاذ الموقف اليائس..
وكان عبد الناصر قد قطع إجازته في اليوم الثاني في مرسي مطروح. وعاد إلى القاهرة.. وكان يذهب إلى مطار القاهرة لاستقبال الملوك والرؤساء القادمين.
وكان يعقد اجتماعات ثنائية مطولة مع كل ملك ورئيس عربي..
وكان يكتب الرسائل إلى الملك حسين ينبهه فيها إلى خطورة استمرار القتال.
وكان يتابع في نفس الوقت.. وكل ساعة التقارير عن آخر تطورات الأحداث في عمان..
وكان كل ما يشغل عبد الناصر ضرورة ألا يقتل إنسان.. سواء في المقاومة أو من الجيش الأردني أو في الشعب الأردني.. كان يريد إنقاذ الجرحى والثكالى.
وكان لا يفتأ يردد نفس العباراة: المهم أن يوقف القتال فورًا.
ولم تكن محادثات مؤتمر القاهرة سهلة على الإطلاق..
لكن جمال عبد الناصر تمكن بعد جهد شاق سريع من أن ينقذ الموقف.. وأن يوافق الملك حسين وأن يوافق ياسر عرفات.. وأن تتكون لجنة عربية برئاسة باهي الأدغم.. ولجنة إغاثة برئاسة الملك فيصل.
بل إن جمال عبد الناصر أمسك ورقة وقلما وبدأ يضع تخطيطًا لعمل اللجنة التي سافرت إلى الأردن.. ويحدد ميزانيتها وطريقة عملها.
ووضع جمال عبد الناصر القلم..
وذهب إلى مطار القاهرة ليودع الملوك والرؤساء العرب.
وجاءت النهاية.
بعد أن قام بتوديع أمير الكويت!
كانت الصحف المصرية قد ظهرت صباح يوم 18 سبتمبر 1970 وهو نفس اليوم الذي توفي فيه الرئيس جمال عبد الناصر وهي تحمل العناوين التالية:
"نجح مؤتمر القاهرة في حقن الدماء العربية".
"وقع الرؤساء اتفاق القاهرة في الساعة التاسعة من مساء أمس".
"إنهاء كل العمليات العسكرية في الأردن".
"لجنة متابعة تنفيذ اتفاق القاهرة تسافر إلى عمان".
وقالت الصحف:
نجحت اجتماعات القاهرة التي رحب بها رائد العروبة الرئيس جمال عبد الناصر.. عندما اعترضت تونس أن تكون القاهرة مقرًا له.. ثم أسس توقيع اتفاق القاهرة من الملوك والرؤساء.. الذين تابعوا اجتماعاتهم 7 أيام متصلة.
الاتفاق مكون من 24 بندًا وينص على إنهاء كل العلميات العسكرية في الأردن. وانسحاب كل القوات المسلحة الأردنية والقوات الفدائية من عمان.. وإطلاق سراح جميع المعتقلين من الجانبين.. وتكوين لجنة عليا لمتابعة التطبيق.
وكانت اجتماعات الملوك والرؤساء قد بدأت صباح أمس بعد وصول الملك حسين إلى القاهرة.. وعقد الرئيس جمال عبد الناصر أكثر من اجتماع مع العقيد معمر القذافي والرئيس جعفر النمير وياسر عرفات.. قبل الاجتماع المغلق للرؤساء.. الذي بدأ في الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر واستمر حتى الرابعة مساء
وتكلم في هذا الاجتماع كل من الملك حسين وياسر عرفات.. وعرض كل منهما وجهة نظره في الأحداث.. ورأيه في طريق الوصول إلى حل.. وتدخل الرئيس جمال عبد الناصر في المناقشات أكثر من مرة ومنع تشعبها حتى يمكن أن تحقق الهدف الأولى. وهو حقن الدماء الفوري.. وإنهاء الوضع القائم في الأردن في أسرع وقت.
ثم استؤنف اجتماع الرؤساء المغلق في الساعة السابعة مساء.. وتم البدء في إعداد صياغة الاتفاق.
وكان راديو عمان قد أذاع في الساعة السادسة بتوقيت القاهرة. بيانًا من الحاكم العسكري العام.. بأنه استجابة لتوجيه الملك حسين.. طلب من الحكومة إعادة التوكيد على وقف إطلاق النار في كل المناطق وكرر الحاكم العسكري في بيانه تأكيده على ضرورة التزام جميع رجال القوات المسلحة والأمن العام بوقف إطلاق النار بشكل مطلق.
وقال مؤيد عماني أنه وردت برقية من الملك حسين إلى نائب الملك وولي العهد.. تضمنت أن الاجتماع الأول للملوك والرؤساء العرب عقد في جو من الأخوة والتفاهم والإيجابية. وأن عشرة ضباط سعوديين سيصلون إلى عمان للانضمام إلى بقية أعضاء اللجنة العسكرية العربية الذين وصلوا عمان في الصباح.
وفي نفس الصحف ظهرت عناوين تقول:
"الملوك والرؤساء يعودون إلى بلادهم"..
"غادر القاهرة مساء أمس الرئيس الليبي معمر القذافي"..
"من المقرر أن يغادر القاهرة صباح اليوم الرئيسي اللبناني سليمان فرنجية..
ثم الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية.. ثم الرئيس السوداني جعفر النميري..
ثم أمير الكويت!".