د.علي العتوم
المقصود بـ (هرقلة) هنا، تلك الخربةُ على مثلث إربد –ارحابا– عجلون، وعلى يمين القادم من بلدة صخرة قريباً من المثلث المشار إليه، بعيداً عن الشارع العام بضع عشرات من الأمتار. وأذكر أنني قبل ما ينيِّف على أربعين عاماً، بينما كنت أستقل الحافلة العامة أنا وبعض أبناء عمومة والدي، متجهين إلى مدينة إربد لقضاء بعض حاجاتنا، قال لي - وهو يشير إليها، أثناء مرورنا بجانبها، ولم أكن إلى ذاك الحين أعرفها-: هذه هرقلة، وقد كانت لهرقل مقاماً أو مكان استراحة. ومنذ ذلك الوقت كنت كلما مررت من هناك أتذكرها، وإذا كان معي بعض الرفقة أذكرها لهم، وما قيل عن ارتباطها بهرقل عظيم الروم في صدر الإسلام.
وبقي الأمر عندي كذلك ذكرياتٍ مارّةً ومعلوماتٍ عابرةً، حتى إذا كان يوما الخميس والجمعة بتاريخ (18، 19/9/2014م) شاع خبر العثور فيها على كنز أو كنوز لهرقل، تقدر قيمتها بمليارات الدنانير، وأن الأجهزة الحكومية هي التي وضعت يدها عليها بعد أن احتاجت عملية استخراجها يومين أو يوماً وبعض يوم، وذلك –كما يبدو– لحزونة الأرض وصعوبة الحفر، مما استدعى أن تُستقدم إليها آليات فعّالة للحفر والنقر، رافق كل ذلك –كما قيل– حظْر المرور من المنطقة، وتحويله إلى جهة أخرى، لكي يفوز الحافرون من ثم بجوف الفَرا من هذه الكنوز، يتقاسمونها هم وبعض الأودّاء داخل الديار، أو وراء البحار!
وقد دفعني حب الاستطلاع والرغبة في الوقوف على شيءٍ من حقيقة الأمر، وكثرة الأقاويل عن هذه الدفائن، أن ذهبت للمكان عينه، فرأيت آثار الحفر والطمّ، وأحسست بمحاولةٍ للتعفية أو التعمية على عملية قد تمت، وأن وراءها سراً يلفها بالغموض. فأخبار الناس تتواتر باستخراج كميات كبيرة من (الركاز) نهبها الناهبون من مغارة ذات دهاليز في تلك الخربة، والأخبار الحكومية تنكر ذلك وتنفيه جملة وتفصيلاً ببيانات متضاربة، فمرة كان الحفر لإصلاح أرض انزلاقية هناك، ومرة لتجديد أسلاك للمنطقة العسكرية ثمَّة، ومرة لا شيء من هذه الأخبار، مع أن الأرض هناك صلبة ومتماسكة، والمنطقة العسكرية تبعد عن المكان عدة كيلومترات.
وعلى كلٍّ، فإن أمر الدفائن ووجودها في بلادنا شيء مؤكّد. فهذه البلاد هي بلاد الحضارات العريقة، وقد مرّ عليها أعظم الأقوام من: يونان ورومان وساميون بمختلف أصنافهم وغيرهم. وهؤلاء يؤثرون عند شعورهم بأفول مجدهم أن يخبِّئوا بعض نفائسهم ببطن الثرى، لعلهم يعودون إليها يوماً. ودفائن الأتراك العثمانيين أوضح شاهد على ذلك وأقربها إلينا. وكم وجد المنقِّبون أو عثر العاثرون على كميات كبيرة من دفائنهم في مختلف أنحاء بلدنا. وما فتئنا نسمع أن الأجداد أو الآباء منهم ما زالوا يحملون خرائط لهذه الكنوز، ويطلب بعضهم من أبنائهم أو أحفادهم أن يذهبوا ويستخرجوها على ضوء هذه الخرائط.
والمسألة هنا، ليست في وجود دفائن أو عدم وجودها، إنما المشكلة أو لأقلْ الجناية هي أن هذه الدفائن عندما كانت تُستخرج أو يُعثر عليها من أي مواطن، تضع الحكومة رأساً يدها عليها، دون أن تحسب للمواطن الذي وجدها أو وُجِدت في بيته أو مزرعته أي حق فيها، بل قد لا يسلم هذا المواطن بحالٍ من الإيذاء الذي قد يصل إلى السجن أو التعذيب والإهانة، مع أنه من ناحية اجتماعية وشرعية أحق جهة بها، حتى لو لم تكن في محيط ملكه، فكنوز الأرض من ناحية اجتماعية لأهلها من حكومة وشعب على السواء، بل إن ما للحكومة من حق فيها يجب أن يعود للشعب لأن الحكومة مسؤولة عن التوسعة عليه، وخاصة عندما يكون بحاجة ماسة.
أما في الشرع فإن الحكم الإسلامي في هذه النفائس أن يكون خمسها للحكومة على أن يوضع في بيت المال، لا أن يذهب لذوي النفوذ كي يتبغددوا فيه والشعب يتضوّر جوعاً، وأربعة الأخماس لصاحب الأرض. وصاحب الأرض هو الشعب. وإذا صح أن الأجهزة الرسمية في هذه القضية قد وجدت كنوزاً فاستولت عليها ولم تعطِ صاحب الأرض أو جيرانه أو بالتالي أهل المنطقة أو الشعب عامة منها شيئاً، فإنه يتبين، كم ترتكب هذه الحكومة من جرائر وآثام بحق الإسلام وحق الشعب فيها.
وإنني لأذكِّر الحكومة ودين الدولة فيها الإسلام، إن كانت قد وجدت فعلاً كنوزاً وباسم هرقل، أن أحق الناس بها هم الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى رأسهم خالد ابن الوليد وإخوانه، أولئك الذين فتحوا هذه البلاد وحرروها من ظلم الرومان، وأجبروهم أن يغادروها مدحورين صاغرين، وفي مقدمتهم كبيرهم هرقل الذي فر من أمام خالد في اليرموك، قائلاً: (سلامٌ عليك يا سورية، سلامٌ لا لقاء بعده). فإن كان خالد وإخوانه قد انتقلوا إلى رحمة الله، فلنسلهم وهم كثر في هذه الديار، فإن لم يكونوا فللشعب الأردني عامة، لأن ما في باطن الأرض من كنوز وما أكثرها في بلادنا ملك للأمة، لا يجوز أن تمد إليها يد بالغصب أو السلب أو الغلّ أو ترويع أصحابها، إلا أن يطبق على هؤلاء الناهبين حد السرقة أو حتى حدّ الحِرابة.
وأقول لأصحاب السلطان في بلادي الذين وضعوا أيديهم على كنز هرقل، إنْ صحَّ ذلك وتأكّد: ألا تأخذون درساً من هرقل نفسه قبل أن يغرَّكم ذهبه اللمّاع -وأنتم تحرمون أصحاب الحقوق منه- فتعظِّموا الإسلام وتحكِّموا شرع الله فينا، كما عظّمه هرقل على شركه، قائلاً –عندما سمع وصف المسلمين من أحد جنده بطاعتهم لله وتحكيمهم لكتابه- (لئن صدقتني لَيَرِثُنَّ هؤلاء القوم ما تحت قدمي هاتين؟! أولا تأخذون من خالد رضي الله عنه وهو يهزم هرقل، قائلاً لمن استكثر جند الروم من متنصرة العرب: (أبِالروم تخوفني؟! والله لوددت أن الأشقر –حصانه– براء من توجِّيه– حَفاه – أنهم أضعاف أضعاف عددهم اليوم)؟! ولينظروا وهم المسلمون وقوفهم يحاربون اليوم أتباع خالد في البلاد التي طرد منها هرقل وأمثاله، مع أحفاد هرقل من أوباما وكمرون ورونالد وأشياعهم الذين يشنونها الآن حرباً صليبة على الإسلام والمسلمين، بالتعاون مع المجوسي عبدة النار وسَرقَة الحجر الأسود.
أما هرقلة الأردن صاحبة الدفائن والكنوز التي قد تكون سُلِبت بعتمة ليل أو بضحوة نهار، فأذكِّر الحكومة عندنا وغيرها من حكومات العرب التي تتعاون في هذا العصر على تسليم أخواتها في بلاد المسلمين للصهاينة والصليبيين والملحدين بهرقلة الروم التي كانت قد تمردت يوماً على هارون الرشيد، فساق إليها جيشاً افتتحها به عنوة، مما استحق جرّاءه مديح الشعراء له وعلى رأسهم أشجع السُّلَمي بقوله:
أمستْ هِرقْلةُ تهوِي من جوانِبِها
وناصرُ اللهِ والإسلامِ يرْمِيها
مَلَكْتَها وقتلتَ الناكِثِينَ بِها
بِنَصرِ مَنْ يملِكُ الدُّنْيا وما فِيها
ما رُوعِِيَ الدِّينُ والدُّنْيا على قَدَمٍ
بِمثْلِ هارُونَ راعِيهِ وراعِيها
فأين اليوم من يرحب بأحفاد هرقل ليدوسوا ديار المسلمين ويقتلوا أهلها، ممن طرد بالأمس هرقل وأذياله منها، وأحيا الإسلام والمسلمين؟! وأين هرقلة اليوم من هرقلة الأمس؟! وأين أنتم يا زعماء العرب من خالد وهارون ومن عمر وهو يوزع ذهب كسرى على الرعية، دون أن يأخذ منه شيئاً، وانتم تأكلون ذهب كسرى وقيصر وتتركون الشعب يتلوّى مسغبةً، ويتكفّف أمم الكفر طعامه وشرابه؟!