تحت كومةٍ كبيرةٍ من الشعارات المذهبية والطائفية والمناطقية والقُطرية (بضم القاف)، تظلُّ تلمع أيقونة القومية العربية الناصعة، تلك التي وإن خفتَ صوتها لسنوات طويلة لكنَّها لم تفقد جوهريتها كحاجة ضرورية للتوازن في عالمٍ يعيش سُعار الهويّات، وتغوّل القوميات أو انشغالها بشتى الطرق لإعادة إنتاج فكرة الإمبراطورية الإستعمارية والدولة/ الغول. ورغم انشغال مواطن الطبقة الوسطى في العقد الأخير باللهاث خلف الخبز، ورغم الانكسار المدوّي لأحلامه بعد سقوط بغداد، إلاّ أن هذا المواطن لم يتخلص من واحدة من أهم مكوّنات شخصيته، ومن حبل السرّة الذي لا ينقطع مع ماضيه التليد، وهي فكرة الجذر؛ الجذر الذي يمدَّه بأسباب الصمود حين يستحضر أمجاد العرب رغم كل ما طالها من سخريةٍ وتقليل، الأمجاد التي ليست بمعنى الحروب والغزوات دائماً، بل بتلك المساهمة التاريخية العظمى في وضع الحياة الحديثة على سكّتها، في العلوم والثقافة وتنمية الفكر والعقل، وهي مساهمات غير متواضعة أبداً؛ الا حين يتعلق الأمر بالمحبطين والمصرّين على "دونيّة الهوية".
في الحرب الأخيرة على غزة، استيقظ شعور القومية الغافي، واندفع الى أعلى المؤشرات، دَعكَ من السلبيين والشكَّائين الذين لن يرضيهم أي شيء، والذين يشتمون عروبتهم ويجلدونها ليل نهار. فلكي أتأكد أن قوميتي معافاة وعلى أحسن حال؛ لم أكن بحاجة لأكثر من تلك اليافطة التي قالت "أنا سلطي ولن أتخلى عن حقي في العودة لفلسطين"، أو حكاية ذلك الولد اليمني في السابعة من عمره الذي ظلَّ يخبئ مصروفه لأسبوع ثم راح يعطيه لإمام المسجد ويوصيه أن يوصله لفلسطين!
تلك اليافطة التي ارتفعت في مدن أردنيةٍ كثيرة، (أنا سلطي، أنا كركي، أنا معاني ولن أتخلى عن حقي بالعودة)، كانت تضرب بقسوة على التفكير المناطقي المريض، الذي بدا مصدوماً من الشارع، الشارع الذي دائما ما خالف توقعات النُخب، وكتب خطابه بطريقته البسيطة والعميقة والصادقة، غير منساق لما يجرُّه إليه البعض من عزلةٍ وهويّات فرعية صغيرة.
في الوقت الذي كان المزاج حزيناً للخسائر العظيمة في الحرب، كانت الروح دفَّاقة وقوية وصلبة بهذه العروبة الصافية التي اندفعت للشارع تعيده الى توازنه، وتنفض عنه الاتهامات القاسية التي طالته، وتزيح كومة الشعارات الصدئة عن الأيقونة اللامعة المصونة: العروبة. وتزيح أيضاً تلك الأفكار التحريضية، والانتهازية، من قبيل "انا وأخوي على ابن عمي"؛ من رؤوس جيل جديد ليس لديه ثارات مع أحد!