"نعم! نعم!.. هو والدي، صاح بأعلى صوته.. عرفته من البنطال الأسود.. وأخذ يصرخ ويضرب رأسه بالحائط.. حاول المتواجدون تهدئته، والطلب منه الدعاء لوالده بالرحمة، حيث اصطفاه الله في شهر فضيل وفي يوم جمعة مباركة.
وما إن صمت قليلا أخذت شابة بالصراخ والعويل: "قتلوك يا خوي.. قتلوك ياخوي" واتخذت من ساحة المستشفى الخارجية مكاناً تفرغ بكاءها فيه من الفاجعة.
الشهيد هو مازن اصلان، باغته صاروخ إسرائيلي في شرق المخيم وهو يستقل مركبة تابعة لبلدية البريج كان بصحبة موظف آخر "شهرمان أبو الكاس"، كانا على رأس عملها في إصلاح الأعطال الطارئة في شبكات المياه والصرف الصحي .
عائلة أبو الكاس تعرفت هي الأخرى على شهيدها من ملابسه ومن مرافقته للشهيد اصلان.. العائلتان عجلت من مراسم الدفن لكسب صلاة الجمعة على جثمانهما!!.
هذه هي الصورة.. أو جزء من الصورة المأساوية مثلما نقلتها أمس صحيفة "فلسطين".. هذه الأيام، يمكنك أن تسمع خبرا عن استشهاد ابنك أو أخوك أو واحد من أفراد عائلتك.. بعد رنة هاتف.. أو عبر صوت مرتفع داخل المستشفى.. أو من أحد جيرانك!
الموت في غزة هذه الأيام أكبر من الحياة، لكن سكان القطاع يرون فيه امتدادا للحياة.. لدرجة احتار فيها الغرب من هؤلاء الأطفال الذين بلغ عددهم الشهداء في صفوفهم، أزيد من 24 طفلا.. لكنهم لا يخافون الموت.. بل يقبلون عليه ببراءة شديدة..
الكيان الصهيوني الذي لا يفرق بين الصغير والكبير.. قرر أن يستهدف المساجد لعلمه أن لبيوت الله "طعم آخر" في رمضان، ولترهيب الناس حتى لا يذهبوا للصلاة، لكن هيهات.. تنقل صحيفة "فلسطين" على موقعها، الشهادات التالية: رغم أصوات الطائرات التي لا تلبث أن تتوقف لدقيقة واحدة ورغم الاستهدافات المتكررة للمواطنين، إلا أن ذلك لم يمنع الحاج أبو نعيم سلامة من أداء صلواته الخمس في المسجد، فصور الأطفال والنساء لا تزيده إلا إصراراً على الدعاء لهم بأن يفرج الله كربهم ويرزقهم الصبر والسلوان..
يقول أبو نعيم البالغ من العمر 65 عاماً إنه لا يخشى الموت أبداً رغم أنه رأى جاريه استشهدا قبل أيام وهما ذاهبان لأداء صلاة الفجر، معتبراً ذلك تحديا للاحتلال الذي يتمنى الموت لكل أهل غزة لكنه لن يحقق لهم ذلك أبداً وسيستمرون في أداء صلواتهم رغماً عنه.
ويرى الحاج الذي كان يتكئ على كرسي من الخيزران البني ويحمل في يده سبحة زرقاء بأن أجواء الحرب هذه تذكره بأيام الهجرة ولا تزيده إلا ثباتاً في أرضه التي يتمنى أن يسقيها بدمه لينال الجنة.
أبو نعيم فقد شهيدا له في الحرب الأولى على قطاع غزة، ولكنه لم ييأس أبداً من رحمة الله، بل يتمنى أن يلحق به وأبناؤه جميعاً، قائلاً: "كل أبنائي فداءً للمقاومة خسئت إسرائيل وخسئ كل من تخاذل في حق الشعب الفلسطيني".
وليس بعيدا عن الصور الإنسانية من قطاع غزة.. تكتب هنادي نصر الله فتقول:.. "في غزة عروسٌ تنتظرُ انتهاء شهر رمضان الكريم لتزف إلى عريسها، لكن طريقها سرعان ما تغيرتْ، لتتحول الزفة إلى"القبر" وتُوارى الثرى؛ ومعها تُوارى أحلامها في الحياة الكريمة، في الأسرة السعيدة.. هي حكاية العروس الشهيدة "أسيل المصري"..
في غزة.. طفولة ممزقة، محترقة، تضلُ طريقها في فهمِ حقيقة الإجرام، تظنُ أن والديها أحياء يرزقون ليس في جنات النعيم، بل في بيتهم يتحدثون.. وكأنهم لم يقصفوا..
من يُحدث العالم عن حسرةِ "نور الدين حمد" الطفل الذي لم يتجاوز الخمسة أعوام ويرقد في قسم الجراحة في مستشفى الشفاء؛ استُشهد والداه وهو يظنُ أنهما مازالا في بيتهم أحياء..!!