لا يهم إسرائيل من يقاتل من في العراق، إضعاف العراق وتقسيمه، والأهم تحطيم قواته المسلحة وتفكيكها، كان على الدوام هاجس نظرية الأمن الإسرائيلية، ومن أجل تحقيق هذه الغاية، لم تتأخر تل أبيب عن أخذ زمام المبادرة بيدها، ضربت مفاعل تموز النووي العراقي في العام 1981، واغتالت عديد العلماء العراقيين قبل حرب 2003 وفي اثنائها وبعدها، وسعت في فتح قنوات خلفية للاتصال مع بعض الأطراف العراقية، وحرضت واشنطن والمجتمع الدولي على القيام بما عجزت آلتها الحربية عن القيام به، فكان لها ما أرادت في اجتياح العراق واحتلال بغداد، وتفكيك الجيش والاستخبارات وتدمير القدرات العلمية والصناعية العراقية، وبعثرة كافة مؤسسات الدولة.
وما أن اجتاح تسونامي "داعش” العراق قبل أيام، حتى استنفرت الآلة الأمنية – السياسية – البحثية في إسرائيل، للتنقيب بين أنقاض الزلزال العراقي، عن "دروس مستفادة”، تتسلح بها لمواجهة ما يعترضها من استحقاقات، سواء على مسار التفاوض والسلام مع الفلسطينيين، أو على صعيد العلاقات الثنائية مع واشنطن، ويبدو أن كتاب إسرائيل وباحثيها وساستها، قد وجدوا ضالتهم في الموصل، حيث رفعت رايات "داعش” السوداء، وتبخّر الجيش العراقي ومعه الأجهزة الأمنية في لمحة بصر، وانهارت منظومات الأمن ومصفوفاتها والتي عملت واشنطن على بنائها خلال السنوات العشر الفائتة، فما الذي خرجت به إسرائيل، بعد فيض المراجعات الأولية للحدث العراقي؟
الخلاصة الأولى: أن خطر "الجبهة الشرقية” سيظل خطراً أبدياً على دولة الاحتلال والاستيطان ... في البدء كان الخطر مرتبطاً بوجود نظام بعثي معادٍ لإسرائيل، يتوفر على جيش قوي ومشاريع انتاج "أسلحة دمار شامل” ... ذهب النظام في نيسان 2003، وظل الخطر، ولكنه بات يتأتى هذه المرة من إيران، صاحبة البرنامج النووي و”القنبلة الشيعية” التي لا تخفي رغبتها في تدمير إسرائيل ... ذهب التهديد الإيراني بمفاوضات إيران مع مجموعة (5 + 1) أو هو في طريقه للتبديد والاحتواء، لكن خطر الجبهة الشرقية، عاد ليطل برأسه مجدداً، ولكن تحت رايات "داعش” وغطاء الإرهاب هذه المرة.
وطالما أن هناك "جبهة شرقية”، فلا بد من الاحتفاظ بالسيطرة الإسرائيلية على غور الأردن والمرتفعات المطلة عليه، أياً كانت القوى التي تتشكل منها هذه الجبهة ... في الجدل الإسرائيلي المحتدم منذ اندلاع الموجة الأخيرة من الأحداث في العراق، عاد غور الأردن ليتحل مكان الصدارة في الأولويات الأمنية الإسرائيلية، وارتفعت وتيرة المطالبات بالاستمساك به وضمه، ورفض الانسحاب منه، تحت أية حجة أو ذريعة أو إغراء.
والخلاصة الثانية: إن إسرائيل لا يمكنها الاعتماد على خطط الأخرين و”ترتيباتهم” لحفظ أمنها وسلامتها، في إشارة إلى خطة جون كيري بهذا الصدد، فواشنطن وضعت للعراق خطة وترتيبات أمنية أكثر تعقيداً وأعلى كلفة، وهي جميعها انهارت بين عشية وضحاها، فكيف يمكن الوثوق بخطط من هذا النوع والركون إليها ... لا يحفظ أمن إسرائيل ولا يصون سلامتها، سوى جيشها واستخباراتها ومستوطناتها، وتلكم خلاصة هامة، سيكون لها حضورها الحاسم في أية مفاوضات قادمة، قريباً أو بعد حين.
ترجمة هذه الخلاصة، أن إسرائيل تفترض أن كل متر ستنسحب عنه من الأرض الفلسطينية المحتلة، يمكن أن يكون ملاذاً لناشط حمساوي أو جهادي او "داعشي” ... إسرائيل تؤبن حل الدولتين، وتستخلص من تجربة اجتياح الموصل، عدم الانسحاب من الأراضي المحتلة، حتى لا تجتاحها "داعش” أو أية منظمة على طرازها وشاكلتها.
والخلاصة الثالثة، أن إسرائيل وهي تجري حسابات "توازن القوى” مع أعدائها وخصومها، تعتمد مبدأين اثنين: الأول، احتساب جميع الأعداء، القائمين والكامنين، وفي دائرة تتخطى دول الطوق إلى دول الإسناد، بل وتلف العالمين العربي والإسلامي، وصولاً لإيران والباكستان ... والثاني، أنها تحسب حساب قدرات العدو وإمكانياته، لا نياته ونواياه، وعليه فإن الاقتدار الأمني والعسكري الإسرائيلي، يجب أن يتفوق على حاصل جمع قدرات كافة الخصوم مجتمعين، وبافتراض أسوأ النوايا من طرفهم، لا أحسنها.
والترجمة العملية لهذا الخلاصة، أن إسرائيل ماضية في سياسة "العسكرة” و”التسلح” حتى يوم الدين، وأنها ستواصل حروبها العلنية والسرية، ضد عوامل الاقتدار والقوة التي قد تتوفر عليها المجتمعات والدول العربية، بما فيها تلك الصديقة أو الحليفة لإسرائيل، فالأخيرة تخشى أن تسقط الدول المعتدلة في أيدي "داعش” ذات يوم، ومن الأفضل في حالة كهذه، أن تكون دولاً مجردة من الأنياب والمخالب.
لا دولة فلسطينية ولا "دولتين لشعبين”، هذا هو الدرس الإسرائيلي الأهم، المستفاد من أحداث الموصل ... أما السياسات المشتقة من الحدث العراقي والمتأسسة على دروسه، فهي تراوح ما بين حدين: أن يقبل الفلسطينيون بدولة الكانتونات والبقايا الشبيهة بالجبنة السويسرية، أو أن تفتعل إسرائيل أحداثاً جساماً في الضفة الغربية، تفضي لعمليات تهجير ونزوح واسعة للفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن، وهو أمر لم تعد إسرائيل تخشى عواقبه كثيراً، فالمنطقة تعج بملايين اللاجئين والنازحين الذين لا يكترث بهم أحد: ثلاثة ملايين لاجئ سوري خلال عامين ونصف العام، ضعفهم من النازحين، مليون لاجئ من جنوب السودان خلال بضعة أشهر، وقرابة المليون لاجئ ونازح عراقي من المحافظات الغربية في أسبوع واحد، ومن دون أن يقلق بشأنهم أحد أيضاً، وطالما أن الحال كذلك مع بقية شعوب المنطقة، فلماذا يكون الفلسطينيون استثناءً؟
السماء أمطرت إرهاباً في الموصل، وإسرائيل فتحت الشمسيات "المظلات” فوق تل أبيب وغوش عتصيون، وبدأت تعد العدة لإنفاذ مشروع "يهودية الدولة”.