لدينا روايتان حول ما يحدث في معان،احداهما سجلها وزير الداخلية في اكثر من مناسبة،وعنوانها "مواجهة الخارجين على القانون” ، أما الرواية الآخرى فقد جاءتنا على لسان رئيس بلدية معان وكان عنوانها "ازمة مفتعلة”.
حين ندقق في الراوية الأولى نكتشف أن الازمة في عيون الحكومة ازمة امنية بامتياز،وأن المسؤول عنها هم مجموعة تتكون من 19 شخصا مطلوبين للعدالة،والمشكلة ليست في هؤلاء فقط،وانما في "الحواضن” الاهلية التي تساعدهم على الاختباء،وفي تعمدهم مواجهة قوات الامن والاعتداء على الممتلكات العامة باستخدام الاسلحة والعنف،مع الاشارة دائماً الى وجود "مجموعات” سلفية متشددة تستهدف تعميق الازمة وابقائها بلا حل.
مقابل هذه الرواية يفرد رئيس بلدية معان (ووجهاء آخرون) ملف ازمة مدينتهم منذ نحو (25) عاماً،ويضعون امامنا تفاصيل "مرعبة” عما حدث،سواءً على صعيد الضحايا الذي سقطوا (8 في عام واحد)،او على صعيد مشروعات التنمية التي فشلت او اجهضت،أو من جهة "تكسير” الوسائط الاجتماعية وايجاد اخرى بديلة لا وزن لها لدى الناس،او ما حدث في جامعة الحسين وما أعقبه من محاولات "للفتنة” بين الاهالي واحدى القبائل المجاورة ...ثم ما جرى في الحملة الاخيرة التي ماتزال مستمرة حتى الان،وخلاصته ذلك ان الدولة مسؤولة عما حدث،وأن غياب "التواصل” والحوار معهم عمّق الازمة،هذه التي يعتقدون انها مفتعلة لابقاء المدينة معلقة تحت رحمة قانون الارهاب.
لا يوجد لدينا –بالطبع- رواية ثالثة،فقد غاب "البرلمان” للأسف عن المشهد،ولم يتحرك كما يجب لمعرفة الحقيقة او المساهمة في حلها،و غاب عن نقل الصورة بموضوعية ولم يكلف نفسه عناء الخروج من العاصمة للوقوف على الحدث وتقديمه كما هو،بعيداً عن "الانحياز” المسبق لهذا الطرف او ذاك،وكذلك حال "الاحزاب” والقوى المدنية التي ظلت تتفرج على المشهد،وأقصى ما فعله بعضها هو اصدار بيان تحذيراً ومطالبة او تنديدا.
ما لا تختلف فيه الروايتان –وكذلك الشهود- هو ان ثمة "ازمة” مفتوحة في معان،لا يهمهنا هنا اذا كانت امنية او مفتلعة،وان ثمة حاجة ملحة لحلها بأسرع ما يمكن قبل ان "تنفجر” لا قدر الله في وجوهنا،وما لا نختلف فيه جميعاً من حيث التفاصيل هو وجود مطلوبين للعدالة،وانتشارالاسلحة في ايدي الناس ،وتنامى الحضور السلفي المتشدد،وانسداد ابواب الحوار،وحالة التهميش التي تتعرض لها المدينة،سواء على صعيد التنمية الاقتصادية او المشاركة السياسية،وما افرزته من تجارة مخدرات وبطالة وفقر واحساس بالظلم وانعدام للثقة بين الاهالي والدولة،واستخدام مفرط للقوة احياناً.
حين عدت الى التقرير الذي اصدره مركز الدراسات الاستراتيجية 2003 اكتشفت ان الصورة لم تتغير،وانما تعمقت اكثر في الاتجاه السلبي،يكفي –هنا- ان ندقق فيما اورده التقرير حول خمسة عناصر ساهمت في تشكيل الازمة وهي: النظرية الامنية،وعلاقة معان بالدولة،وتصور الامن العام للمدينة، وتصور اهالي معان لمؤسسات الدولة،والاحساس بالغبن والاحتجاج،وسنجد –بوضوح- ان هذه العوامل مازالت هي التي تحكم تصورات الطرفين وسلوكياتهما...وأن استمرارها يعني اننا ما زلنا "نتفرج” على المشهد ولم نذهب الى "العنوان” الصحيح لمعالجة الازمة او تطويقها.
مما يشير اليه التقرير ان "ظاهرة” الاحتجاج العنيف في معان ناتجة عن جملة من العوامل المتداخلة،وليس نتيجة عامل واحد،فهنالك عامل اقتصادي واخر اجتماعي وثالث سياسي ورابع امني،وبالتالي يخلص التقرير الى ان النظر الى مدينة معان كمشكلة امنية مجردة من ابعادها الاخرى لم يساهم في ايجاد حلول جذرية لها،كما ان العلاقة السائدة بين أهالي معان والدولة لا يمكن وصفها بانها صحيحة ،ومع انه من الصعب –وفق التقرير- فصل معان عن السياق الوطني باعتبار ان التنمية السياسية والاقتصادية مطلب وطني عام ،فان هنالك خصوصية تكمن في علاقة اهلها باجهزة الدولة المختلفة ،وايضا في التحرك الامني الذي تشهده في ازماتها دون غيرها من المناطق الاخرى وما ترتب عليه من تعزيز التماسك بين الاهالي وردودهم السلبية تجاه "التعاون” معها.
باختصار،لانريد ان تبقى معان "جرحاً” مفتوحا،ولا نريد ان نظل ندور في اطار سؤال من هو المسؤول عن الازمة ،وانما من المهم ان نجيب على سؤال : كيف نخرج من الازمة؟ اذا اتفقنا على ذلك ولم نختزل "الازمة” في معان وحدها فعندها يمكن ان نخطو خطوة على طريق الحل.