انحازت عواطف الكثير من المراقبين والسياسيين إلى جانب قادة مبادرة "زمزم” الذين سقطوا مؤخراً كأعضاء في جماعة الإخوان المسلمين بنيران المحكمة الإخوانية التي أصدرت قراراً بفصلهم من الجماعة، وقد أخذ الكثيرون على الإخوان أنهم لا يسمحون بالرأي الآخر، ويضيقون ذرعاً بأصحابه، وذهب البعض بنعتهم بأنهم قمعيّون، ولا يطيقون الديمقراطية، أو يتحمّلون تبعاتها..!
وبالرغم من أنني لست عضواً لا في جماعة الإخوان ولا في "زمزم” ولا أنتمي إلى أي تنظيم سياسي حالياً، إلاّ أنني أرى أن قرار الإخوان كان في مكانه تماماً، فالجماعة تنظيم له تقاليده وله أُطُره السياسية والتنظيمية وهي أُطُر قائمة على الولاء والطاعة والالتزام، وتشكّل أساسيات البناء والبقاء، ولو كانت الجماعة تهاونت في هذه الأساسيات لما بقيت على قيد الحياة ولما استمرت عالمياً إلى حوالي تسعين عاماً مضت من عمرها، وحوالي سبعين عاماً على المستوى المحلي..
جماعة الإخوان المسلمين ليست حزباً بالمفهوم الحزبي الضيق، وإنما حركة إسلامية ذات أطر دعوية وسياسية واجتماعية وتنظيمية، ولأنها كذلك فهي لديها القدرة على اجتراح الأفكار وهضمها والتعامل معها داخلياً بصورة واضحة، لكنها لا تملك وفق "ميكانيزمات” عملها وتقاليدها أن تتقبّل أي خروج عن النسق، أو تقديم مبادرات سياسية خارجة عن إجماعها، ولو سمحت بذلك، لكانت وضعت نفسها على حافّة الخطر، فهل يقبل أي حزب سياسي في الدنيا أن يخرج رهط منه بمبادرة سياسية يعلنونها على الملأ، ولمّا تستوفِ شروط قبولها داخل الحزب، أو تلقى المباركة والتأييد..!؟
من هذا المنطلق، كان يجب على أصحاب فكرة "زمزم”، وهم خيرة مفكّرة، أن يستقيلوا بداية من الجماعة إذا كانوا مُصرّين على تقديم مبادرتهم وإشهارها في المجتمع، لا سيّما بعد أن تيقّنوا أن الجماعة غير راضية عن المبادرة، وكان واضحاً ذلك منذ البدايات الأولى، ولعل المراقب لحواراتهم العديدة لتسويق مبادرتهم، يُحسّ بعمق العزلة التي يشعرون بها، بعيداً عن دعم الجماعة لهم، لا بل يُحس بأن ثمّة شعورا واضحا بعدم الرضا عن المبادرة وعن أصحابها، مما كان ينبيء بأن مصير قادة المبادرة هو الفصل من الجماعة.
قد تكون مبادرة زمزم، التي لقيت ارتياحاً لدى أوساط رسمية وشخصيات سياسية مرموقة، نواة لحركة سياسية جديدة في المجتمع الأردني، حركة منفتحة على الناس والمجتمع والقوى السياسية والإصلاحية، لكنها من الصعب أن تلاقي ذات الارتياح لدى الأوساط الشعبية في المجتمع، والسبب أن فكرة الإصلاح التي تتبناها لا تزال غير واضحة، كما أن الطريق إلى "البناء” بالطريقة التي يفكّر فيها أصحاب "زمزم” لا يزال يشوبه الكثير من الغموض وعدم الوضوح، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يشعر المرء وهو يتحاور مع أي من قادة "زمزم” أن قناعاتهم بما يطرحون لا تزال غير ناضجة، وهو ما يضع أكثر من علامة استفهام حول أساسيات الفكرة، ومراحل نشوئها، وما إذا كانت الدوافع قد تشكّلت بهدف إحداث التغيير من قلب الجماعة والتأثير على النسق التقليدي الذي اتسمت به عبر عقود طويلة، وهو ما ربما ينمّ عن فقدان الإيمان بقدرة الجماعة على تحقيق أهدافها في حال استمرت على ذات النسق والتقليد..!
وفي كل الأحوال، فإن قرار الفصل كان متوقعاً، فلا يمكن للجماعة أن تستوعب هذا "الخروج” أو ما تسمح بهذا التعاطي مع الشأن العام بعيداً عن أدواتها وآليات عملها ودوائرها، وربما كان ممكناً لأصحاب فكرة "زمزم” إقناع الجماعة بفكرتهم أولاً، وتسويقها داخل دوائر الجماعة قبل الخروج بها إلى المجتمع، وقد يقول قائل بأنه لن يُسمح لهم بذلك، وقد يكون ذلك صحيحاً، لكن ذلك أفضل ألف مرة من تسويق فكرة مرفوضة داخلياً، قبل الخروج من دوائر الجماعة، لأن ذلك سيكبّل "زمزم” أو يؤدي إلى إحراج الجماعة، وفي كلا الحالتين هناك خسارة تُسجّل، وتلحق بالطرفين..!!
ما تم في المحكمة الإخوانية كان صحيحاً مائة بالمائة من وجهة نظري، وفي ظنّي أن الجماعة ومحكمتها قد صبرتا كثيراً على أصحاب "زمزم” علّهم يعودون إلى الجماعة بأوبة، أو باستقالة، وهذا ما لم يحدث، فكان الحكم بالفصل.. قراراً تنظيمياً سياسياً إخوانياً ضرورياً..!