أخبار البلد- خالد أبو الخير
ليست القدس في فؤاده مجرد مكان، أنها قدس الأمكنة كلها وبوصلة القلب ، تتهلل تراتيلاً وقامات مآذن وأجراس ميلاد وحمائم سلام.
ولد طبيب القلوب، النطاسي البارع، الفريق الدكتور داوود انسطاس حنانيا في زهرة المدائن عام 1934، وفيها عاش طفولته وشبابه الباكر، وتركت فيه شوارعها العتيقة وساحاتها المقدسة أجمل ما يتبقى..
يستذكر إن بيت العائلة كان يقع بين حيين يهوديين، ووعى على أصوات الرصاص وانهمار القذائف في مناوشات عام 1947.. يالله ما أكثر ما تعطرت الطرقات بدماء شهداء والياسمين .
والده انسطاس حنانيا كان رجلا فاعلاً في سيرة المدينة المقدسة في النصف الأول من القرن العشرين، انتخب نائباً لرئيس بلدية القدس أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، وعمل الكثير من اجلها بعدما تنبه واخوانه عرباً ومسيحيين إلى خطورة ما يحاك ضدها.
مع إعلان وحدة الضفتين عام 1950 ، انتقل الوالد انسطاس إلى عمّان، واستقر فيها منذ ذلك التاريخ، و تقلد الوزارة عدة مرات تقارب من 18 مرة من بينها وزارة خاصة باللاجئين، ثم وزارة الخارجية، ووزارة العدل في العام 1952، في الفترة التي شهدت صياغة دستور المملكة.
لكن الفتى داوود بقي في إيلياء، درس في مدرستها "الفرير" الثانوية ، وحاز المترك عام 1951.
ودع القدس أيامها منتقلا إلى عمان، عاصمة المملكة ، ممنيا النفس بالعودة مجددا، يوما ما، إلى مرابع الصبا والأتراب .. لكن المشوار طال وحلم العودة تأخر كثيرا، حتى غدا أحيانا مستحيلاً.وطيلة تلك السنين بقت القدس جرحا نازفاً في قلبه الذي ما فتيء فتياً.
في عمان التي يعشق، لم يطل به المقام ايضاً، إذ سرعان ما حظي بمنحة من الجيش العربي الأردني للدراسة في المملكة المتحدة.
استهوته لندن أوائل الخمسينات، شعب خرج لتوه من حرب عالمية واندفع بخوض معركة التطور والتصنيع والتحديث. أكثر ما لفت انتباهه هو النظام الذي يسير عليه الانكليز.
اجتهد في دراسته وواظب، وحاز هذا الاردني المقدسي بكالوريوس الطب و الجراحة من جامعة لندن عام 1957.وحين تخرج عد أول خريج أردني منح بعثة. لم يرغب بممارسة السياسة، رغم جرح القدس الباقي في نفسه، فقد عافت نفسه السياسة وجذبه التحصيل العلمي، ولم يلبث أن حاز فيما بعد شهادة الدكتوراه في طب وجراحة القلب والشرايين والصدر.
قفل عائدا إلى عمان " وليس من مكان في الدنيا مثل عمان"، و التحق بالجيش العربي طبيباً جراحاً وإدارياً.
أجرى أول عملية قلب مفتوح في الأردن عام 1970، وبعد عامين أجرى أول عملية زراعة كلى في الأردن والعالم العربي، ثم أجرى أول عملية زراعة قلب في الأردن والعالم العربي أيضاً عام 1985.
يتضمن سجله الطبي اجراء نحو 12 ألف عملية أمراض قلب على اختلافها، وعرف عنه، انه من الاطباء الذين يعلون رسالة الطب الإنسانية. ومن ذلك انه درج على التنسيق بين مشافي الحكومة والمستشفيات الخاصة لحل مشاكل المرضى الذين لا يستطيعون الدفع. وكان رأيه أن مشافي القطاع العام عليها ضغط كبير، والمستشفيات الخاصة غلب على أغلبها الجشع المالي.
ربطته علاقة قوية ودافئة بالملك الراحل الحسين ، رغم أنه لم يجر أية عملية جراحية له ولكنه كان يستشيره في الأمور الصحية.
تقلد خلال مسيرته العديد من الأوسمة، نذكر منها وسام النهضة، وسام الإستقلال، وسام الكوكب – الدرجة الأولى، وسام KBE- بريطانيا، واوسمة اخرى من ألمانيا الغربية، فرنسا، الصين، السودان، الولايات المتحدة.
عمل لسنوات مديرا لمدينة الحسين الطبية و الخدمات الطبية الملكية والمؤسسة العلاجية، واختير عدة مرات عضوا في مجلس الاعيان.
..لم ير حنانيا القدس إلا بعيد توقيع معاهدة السلام عام 1994، وواظب منذ ذلك التاريخ على مرتين كل عام. لكنه لم يقم أي اتصالات شخصية أو مهنية مع مستشفيات أو كليات طب إسرائيلية وفي ذلك يقول : "خاطبوني ودعوني أكثر من مرة. أجبتهم بالاستعداد للتعاطي معهم، في حالة وحيدة هي التقدم الفعلي على طريق السلام، والشروع في إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة في العام 1967".
مرة حين وطأ شوارع القدس أول مرة بعد طول نأي وغياب، هبت عليه رياح سماوية، وشم عبير الياسمين وعبق الشهداء والطرقات التي منها بدأت الرحلة.. خال نفسه ما تزال تركض فيها بملابس كشافة "الفرير"، وطائرات من ورق ، وشمعة في ليلة ميلاد، ما تزال تنشر ضوئها لغائبين لا بد أن .. يؤوبوا.