منذ أكثر من خمسة أعوام لم تطأ قدمي وسط البلد في العاصمة عمان لأكثر من سبب، بعد أن كنت اعتدت أن أتدرّج كل جمعة لأعيش نبض أهل البلد وكأنك تعيش مشاهد حقيقية غير تلك التي زيّفتها السياسة وتظاهر بها المسؤولون.
حظيت الجمعة بزيارة إلى ذلك المكان الذي لم يتغيّر، باستثناء أنّه أصبح أكثر قدرة على الوصول إلى أعماق أنفسنا، بسبب زيادة رقعة الفقر وارتفاع عدد السكان بنسبة لا تتوافق والنمو الاقتصادي المتحقق.
أبو مازن، الذي اعتقد بداية أنّني رجل أمن، تردد حتى النهاية في الإفصاح عن اسمه، وإن كنت استمتعت بحوار قصير معه وهو يبيع مجموعة من شواحن الخليوي المستعملة وبدينار فقط، ما يهمّه أن يجمع عشرة دنانير مع نهاية النهار لإطعام أولاده الستة.
أمّا ذلك الطفل المتمرد مرتضى فلا يعلم كيف تسير الأمور في هذا البلد، وبالكاد يتذكر منطقة عبدون عندما كان والداه يعيشان على أطرافها في بيت من «الزينكو»، قبل الانتقال إلى حي نزال وهو بعمر الأربع سنوات.
والده، الذي رسمت عمان على وجهه خرائط بؤس، يعتمد عليه في كل صغيرة وكبيرة بعد أن أثقلت كاهله الأمراض ومنعه الروماتيزم من التحرك كثيرا، يقول: «إزا بدك أيّ شي مرتضى بجبلك إياه، الله وكيلك ما بدنا غير ليرة عليه».
تلك هي عمان الحقيقية قبل أن تتحول لمخططات على الورق، تارة توسعة وتحديث وتطوير، ومرة قوانين «استثمار» و»مالكين ومستأجرين»، والغاية واحدة: العبث بما هو واقع، ورسم صورة حضارية زائفة للزائر تتماشى مع أرقام نمو زائفة لا تنعكس إلاّ على طبقة محدودة تتحكم بمفاصل الدولة.
حال من افترش الأرض في وسط البلد وحتى من يتجولون بحثا عن قطعة بدينار كحال الملايين في شرق عمان وجنوبها، والمحافظات كافة، هؤلاء انتزعت منهم مفاهيم التنمية بأشكالها ومطلوب منهم أن يبقوا على حالهم حتى لو امتدّ وسط البلد إلى المطار.
استذكر زائرا من الكويت عندما كان يسألني باستمرار عن أسعار الشقق والمركبات وتحديدا في عمان الغربية، وفي كل مرة يفاجأ بأنّ شقة متواضعة دفع قاطنوها أكثر من مئة ألف دينار لاقتنائها، بينما مركبتهم المصطفة في الكراج قيمتها 320 ألف دينار، كان يضحك ويسأل: كيف تقولون أنّ هناك فقر في الأردن؟
لا يدري صاحبنا كم عدد الذين ينبشون في الحاويات، ولا يعرف مقدار الضرائب والجمارك والرسوم المفروضة، وكم هي المليارات الضائعة بسبب ممارسات فساد، بل إنّه لم يذهب إلى وسط البلد قط.