في الثالثة من صباح يوم أمس السبت غادرت المنزل لسبب ما، كان الثلج يغطي أطراف الشوارع الخالية كمأتم انفض فجأة، وخلا من كل شيء إلا انكسارات أضواء تسيح على وجه الأرصفة، وشارة ضوئية بلهاء تنثر أحمرها في وجه شارع خال، وبائع قهوة وحيداً على دوار الداخلية، ما زال مصرا على التقاط زبائنه، رغم الصقيع حتى الفجر.
لم يتسع وقتي لأكثر من شراء فنجان قهوة والترجل من السيارة والسير في الليل.
إلى أين امضي؟
ما أسهل السؤال وما أصعب الإجابة، حين يتضح، بما لا يقبل الشك، أن انسحاب الثلج إلى أطراف الشوارع هزيمة، وان العبث الذي يقودني إلى ما لست ادري هزيمة، والذين ناموا ملء أجفانهم قبل انتصاف الليل مهزومون. والفرق، من حقي أن ازعم أن ثمة فرقاً أنهم سلموا بهزيمتهم، وأنني ادعي على طريقة «كفافي» (1) أني سأذهب إلى بحر آخر، إلى مدينة اخرى. رغم انه يجيب في ذات القصيدة: ما دمت قد دمرت حياتك في هذه الأرض، فستدمرها في كل مكان.
سرت مبتعداً تجاه الجسر الذي انشقت خاصرته تجاه العبدلي، سرني ان اكون وحيداً دون إحساس بمسؤولية تجاه احد، ولا حتى نفسي! أن اركض وحيداً، وأصرخ وحيداً وأموت.
سرني أن أكون أبعد ما يكون عما قد تفكر به الحكومة وصندوق النقد والبنك الدوليين، طفراناً دون هوادة.
لكن الحكومة كانت حاضرة في كاميرات مراقبة السيارات والمارة الذين قد يكون منهم مثلي، من يعكر صفو عملها.
خطر لي حين رمقت الكاميرا أن أنادي: أيها الناس؟ وخفت إن هم جاؤوا ان أجيبهم كما أجابهم ذلك الفيلسوف الإغريقي (2): «لم أنادكم! إنما ناديت الناس».
في طريق عودتي كان الليل ينسفح كدموع سوداء باتجاه فجر، والثلج على أطراف الشوارع يزداد صلابة وتجمداً، وكأنه يتشبث بقدرته على المقاومة قبل اندلاع شمس. وبائع القهوة ينفخ في يديه ويستدير لشأنه، قال لي حين بلغته دون اكتراث: ليس من ثمة قهوة بعد.
(2): الفيلسوف ديوجين عرف بغرابة أطواره، ومنها أنه كان يسير في الليل حاملا قنديلاً باحثاً عن الإنسان.
(1): قسطنطين كفافي شاعر يوناني، ولد في الإسكندرية، من أشهر أعماله قصيدته «إيثاكا».