ننزرع أمام الفضائيات فنحسُّ سخونة الدم لحظة انفجاره من وريد نافر، أو نشم رائحة شواط الصواريخ، التي تدخل البيوت من سقوفها، وتطبخ الأولاد، فنتشردق بدمعنا، ونطلق شتائمنا على عالم بات أقسى من القسوة. وإذا غلبنا النعاس، ننام كالذئاب بعين واحدة، واليد عالقة بالريموت، فتوقظنا مجازر أخرى، ليجف الريق إلا من: لا حول ولا قوة، إلا بالله.
أشفق أطفالنا الذين من المفترض أن نحتفل بيومهم العالمي، قبل يومين. أشفق عليهم فقد تبدلت ملامحهم ولغتهم ولثغتهم، فقد صاروا لا يميزون الصاروخ عن العصفور، ولا الطائرة عن جناح الحمامة، وقلَّ شغبهم، وانخفض منسوب ضحكهم، ولم يكترثوا بقناة سبيس توون، أو دورا، وبرامج الكرتون، بل يندغمون معنا في مشاهد لا تقبلها قواعد الصحة النفسية. فكيف ستكبر فيهم الطفولة، ومشهد الدم يلازم عيونهم من حلب ومعرة النعمان إلى غزة ودير البلح؟!، وكيف ستكبر أحلامهم وجثث أطفال بأعمارهم ملفوفة بأكفانها الراعفة.
طفلتي المتعلقة بالتلوين، باتت تحرجني ليس بكثرة أسئلتها الواخزة، واستفساراتها المجنونة، والتي عليك أن تحتال لتوصل لها إجابة تشفي غليل خياله. بل تحرجني، وتخيفني عليها، لأنه ملأت دفترها بالأحمر، فكل أصابع الألوان ظلت على حالها، ووحده يجف قلمها الأحمر.
البيوت التي تكشف ناسها ترسمها حمراء، وفيها مدفأة تنفث دخاناً أحمر، والشمس تبزغ من طرف الصفحة ترسمها حمراء بأسهم حمراء، حتى العصفور المنكمش فوق شجرة بحجمه ترسمه بالأحمر. فيا الله، أطفالنا ستشيخ طفولتهم على مشاهد القنابل، وجحيم الطائرات، وتجبر الطغاة، سيشيخون على بسمة موت صفراء في وجوه الشهداء.
كنت أنوي أن أعلم ابنتي كيف تميز العصفور من تغريده، فتقول هذا شحرور، أو بلبل، أو هذا هدهد، أو دوري، أو هذا زريقي أو (حبة عروس). وكنت أنوي أن أعلمها مع أخوتها، كيف يعشقون شجرة الزيتون في بستاننا، وكيف يقعون بحب فراشة تداعب زهرة أقحوان، عند خاصرة وادي العريس في كفرنجة، وكيف يغنون لغيمة مغوارة تطل برأسها من أفق ضاحية الرشيد قبيل المغيب. لكن الحرب تصمتني!.
يقول اختصاصيون نفسيون، إن العدوان الصهيوني على غزة سيخلف جيلاً يعاني كماً هائلاً من الأعراض النفسية الصعبة, وستدفع إسرائيل الثمن غالياً في المستقبل؛ لأنها تخلق ثقافة الحرب والعنف.
ودعونا نقول: لا بأس يكبر أطفالنا، وهم يحفظون اللغة الحمراء، بل علينا أن نرضعهم حليباً مدسماً بحقيقة، أن عدوهم لا يعرف إلا القتل لغة، وأن الطغاة والأعداء إلى زوال. ولا بأس أن نتعلم من أطفالنا إذا جهلنا، فأصحاب القضايا المصيرية يولدون طاعنين بالعشق والمقاومة. يولدون وشموسهم حمراء!.