أخبار البلد -
الازمة السورية وصلت ذروتها أو هي في طريقها الى بلوغ هذه المرحلة, بعد أن تجاوزت الاطراف اللاعبة فيها الخطوط الحمر, وبات المشهد مستعداً لفصل جديد, قد يبدأ فصله الاول من التحذيرات التركية برد «حاسم» على اسقاط الدفاعات الجوية السورية طائرة حربية تركية اخترقت المجال الجوي السوري, ترافقت مع تسريبات تركية «غير بريئة» تتحدث عن اعتذار دمشق عن الحادث, فيما سارعت الاخيرة الى اصدار بيان رسمي خلا من أي اعتذار, بل حمل في طياته رسالة لا تخلو من دلالة لأصحاب القرار في انقرة..
ثمة اذاً حريق يوشك أن يشب في المنطقة بأسرها, وهناك من يحلو لهم بل هم يستسهلون تحميل النظام السوري المسؤولية عن ذلك في اغفال مقصود لطبيعة الازمة وتعقيداتها, والتي تستدعي ليس فقط احترام عقول الناس بل وايضاً في فهم خريطة التحالفات القائمة الان أو تلك التي استجدت, ناهيك عن بعض العواصم العربية والاقليمية التي تريد «استلحاق» نفسها ونيل جزء من الكعكة السورية, ظناً منها أن «سوريا» أوشكت على السقوط وأن الغنيمة باتت جاهزة للاقتسام(...).
المسألة اعمق من ذلك بكثير وأكثر تعقيداً مما يظن بعض العربان, الذين وضعوا كل بيضهم في سلة الاميركان والاوروبيين وبعض حلفائهم في المنطقة (غير العرب) وتداعيات اسقاط الطائرة الحربية التركية لن تكون «كارثية» في كل الاحوال أياً كانت حدة التصريحات التي يدلي المسؤولون الاتراك, والتي تحمل في طياتها غطرسة وغروراً أكثر مما تسعى الى الاعتراف بأنه ثمة خطأ تركي قد حدث, وأن الساذج هو من يصدق أن طيار محترف اطلسي التدريب لا يستطيع التحكّم في سرعة طائرة «فانتوم 4» وإن كانت اقل حداثة وتطوراً من اجيال الطراز ذاته, التي يكاد أن يصل في نسخته الأحدث الى رقم F.35 التي ستحصل عليها اسرائيل في صفقة بمليارات الدولارات هي الأضخم في تاريخ الدولة العبرية, فيما قد لا تكون في خدمة سلاح الجو التركي (الاطلسي) الا بعد عقد مقبل من السنين أو اكثر..
ليس تفصيل مكانة انقرة لدى واشنطن مقارنة بتل ابيب هو موضوعنا, بقدر ما قصدنا التأشير على ارتباك الجانب التركي في تفسير اختراق الاجواء التركية (سرعة زائدة!!) على ما قال الرئيس عبدالله غل, الذي يذهب بعيداً ذلك ليقول «.. لا يمكن التغطية على امر كهذا.. وكل ما سيتعين فعله سيتخذ»..
هنا تكمن القطبة المخفية التي حاول كثيرون التستر عليها وهي وجملة المقاربات والممارسات (اقرأ الارتكابات) التي قارفتها عواصم عربية وغير عربية, لتأجيج الاوضاع في سوريا وايصالها الى حال التعقيد الشديد, التي باتت عليها وما تحمله من امكانات واحتمالات ماثلة لانفجار لن يكون سقوط النظام السوري (إن حدث) هو الاول والاخير في سلسلة التداعيات, التي سيترتب عليها اسقاطه بغزو عسكري أو بالتمهيد لغارات جوّية أو البدء بإقامة مناطق عازلة وحظر جوي سيشعل حرباً اقليمية باتت نذرها تلوح في الأفق..
ساذجة تلك القراءة السياسية التي قامت قبل اربع وعشرين ساعة من اسقاط الطائرة التركية, على أن النظام السوري أخذ في التفكك بعد ان انشق عقيد طيار قاد طائرة الميغ 21 الى قاعدة عسكرية في المفرق, وكانت القراءة ذاتها على درجة أعلى من السذاجة والفقر المعرفي والجيوسياسي, عندما بنت على اسقاط الطائرة التركية استنتاجات بائسة, بأن هذه العملية السورية (الإسقاط) هي هروب الى الامام، تريد دمشق من ورائها خلق وقائع سياسية اقليمية ودولية جديدة لنقل مأزقها الداخلي الى الخارج بقصد خلط الاوراق.
الامر يستدعي مقاربة اخرى اكثر عمقا ورشدا من عمليات التحريض والشحن الاعلامي والكتابة الاستنسابية فارغة المضمون التي تقول كل شيء ولا تقول شيئا، فقد خرجت الازمة السورية من اطارها الداخلي منذ زمن طويل عندما بدأت انقرة على وجه الخصوص عملية الاحتضان المادي والمعنوي والاعلامي واللوجستي لرياض الاسعد وجيشه الحر بعد ان انتهت في سرعة من خطابها الوعظي الاستعلائي الذي نهض على الاوامرية اكثر مما قصدت مساعدة السوريين نظاماً «كان صديقا» ومعارضة (وطوائف!!) ثم بدأت عملية التسليح (الذي أكدته نيويورك تايمز ولم يغير النفي التركي لاحقا شيئاً) والتبني المطلق لخطاب مجلس اسطنبول ومسلسل مؤتمرات اصدقاء سوريا وغيرها من الخطوات التي بدت فيها انقرة وكأنها «ام الصبي».
التوتر الاخير ليس مفاجئاً إلاّ في توقيته والاحتقان بين البلدين كان مرشحا للانفجار في أي لحظة ورأينا كيف هددت انقرة باللجوء الى المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الاطلسي عندما وصل «رصاص» القوات السورية «امتاراً» معدودات الاراضي التركية وقريبا من مخيم كيليس في تبادل مع معارضين سوريين مسلحين لم تهدأ (انقرة) إلاّ بعد صدور «توضيح» من حلف الشمال الاطلسي بان الاخير هو من يحدد طبيعة الخطر الذي تتعرض له دولة عضو فيه كي يبرر التدخل ضد الاطراف المعتدية.
الواقعون تحت تأثير وساوسهم او شهواتهم او هوسهم بان النظام السوري ارتكب غلطة العمر وانه حفر قبره بيده عندما «تحرّش» بتركيا صاحبة ثاني اقوى جيش في حلف الاطلسي، عليهم ان يفيقوا من احلامهم، لان المعادلة التي بنوا عليها حساباتهم قد تجاوزها الزمن السوري وانتقل «القرار» الى عواصم القرار الدولي، وهذا ما جنوه على امتهم تماما كالشاب الذي قتل والديه وراح يطلب المساعدة لأنه... «يتيم»!!