اخبار البلد
موقف القوميين العرب والأنظمة القومية العربية
من "الإسلام" ديناً وحضارةً وفلسفةً، موقف غريب ومستهجن، ويستعصي على الفهم،
وغير قابل للتبرير، رغم محاولات المصالحة التي جرت في العقد السابق وما بعده وأثمرت
إنشاء بعض المؤسسات تحت مسمى "المؤتمر القومي الإسلامي" وغيره، التي لا تخرج
في مجملها عن بعض المجاملات واللقاءات والمؤتمرات، والمقالات الإنشائية التي لم تغيّر
من الحقيقة المرّة شيئاً.
أستطيع أن أتفهم موقف بعض الأحزاب القوميّة
التركية المتشددة من الإسلام وحضارته، وكذلك موقف بعض الأحزاب الإيرانية القومية، المتعصبة
للعرق الفارسي، التي ترى أنّ الإسلام أتى بالعرب إليهم فاتحين واستطاعوا إطاحة الإمبراطورية
الفارسية العظيمة، التي لا بدّ من إعادة مجدها التليد حسب زعمهم، بعد أن أصبحت ملحقة
بالقيادة العربية!!
لكنّي لم أستطع أن أبرر موقف القوميين العرب
والحركات القومية العربية التي استطاعت الهيمنة على معظم الأقطار العربية بعد الحقبة
الاستعمارية من خلال الحكم الناصري في مصر، والحكم البعثي في كلٍ من العراق وسوريا،
إضافة إلى جبهة التحرير في الجزائر، وحكم القذافي في ليبيا، وما لهذه الأنظمة والقوى
من أتباع وامتدادات ومؤيدين على الرقعة العربية كلها. لماذا هذا الموقف العدائي والسلبي
من الإسلام، مع أنّ الإسلام هو الذي ملأ آنية العرب فكراً وحضارة وقيماً وأعرافاً،
وجعل العرب أمّة لها رسالة حضارية راقية، وخطاب عربي إنساني متقدم، محل فخر واعتزاز،
ومحل تقدير عالمي رفيع؟
لماذا الموقف المتشنج من الإسلام الذي نزل
على محمد العربي صلى الله عليه وسلم من ذروة أنساب العرب، وجاء القرآن باللغة العربية،
وحفظ اللسان العربي، وجعل اللغة العربية لغة عالمية، ولغة حضارية، ونزل الإسلام في
جزيرة العرب، وجعل العرب في مركز القيادة والريادة، لكل شعوب المنطقة، واستطاع النبي
العربي أن يوحد شتات العرب خلال مدة قصيرة من الزمن؛ ليجعلهم أصحاب رسالة انطلقوا في
أرجاء المعمورة فاتحين، واستطاعوا مقارعة أعظم الإمبراطوريات العالمية السائدة الرومانية
والفارسية، وبقي سلطان العرب يعظم ويعظم على الصعيد العلمي والمعرفي، وعلى الصعيد الإنساني
الحضاري، ليصبح العرب في موقع المزاحمة على قيادة العالم.
الإسلام أعطى العرب منظومة قيم نبيلة، وطوّر
حياتهم في كلّ مجالات الحياة وشكل لهم نظاماً اجتماعياً فريداً ونظاماً للأسرة، ونظاماً
للاقتصاد، ونظاماً تربوياً ونظاماً معرفياً شاملاً، وحرر العقل من الخرافات والأساطير،
وأرسى قواعد المنهج العلمي في التفكير ورفع شأن المرأة، وحارب التمييز العرقي والديني
والمذهبي، وأرسى قواعد الدولة المدنية، ودولة المواطنة، وأسهم في رفع مستوى الأمّة
العربية في رفع مستوى البشرية في كل الكرة الأرضية، إلى آفاق الحرية والكرامة الإنسانية
المصونة.
القوميون العرب ينبغي أن يتبنّوا الإسلام ونظمه
الحضارية ورسالته الإنسانية ويتعصبوا له من جهة الانتماء العرقي الفطري والقومي والمكاني،
إن لم يكن بدافع عقدي أيديولوجي، وبإمكانهم أن يفتخروا بأنّ الحضارة الإسلامية منتجٌ
عربيّ، ومن مصدر عروبي وولدت في حاضرة العرب وحاضنتهم، وجعل صحراءهم مصدراً ثراً للمعرفة
والقيم النبيلة.
لكن العجب العجاب أنّ الغالبية العظمى من مُنظّري
القومية العربية، تحاول إفراغ الذهنية العربية من الإسلام وقيمه، وتتجه إلى استيراد
فكر اشتراكي في الأغلب يحمل بذور العداء للإسلام وحضارته وتاريخه، وتحاول طمس الهوية
الإسلامية وتعمل على حفر خندق رهيب مليء بالقطيعة ومليء بحملة تشويهية مليئة بكل معاني
الحقد والكراهية وافتعال حرب داخلية ضروس بددت طاقات الأمّة وأهدرت فرصتها في النموّ
والازدهار، وأنا لا أدري عندما يتمّ تجريد العرب من الإسلام، ماذا بقي لهم من التاريخ
والحضارة والإنجاز والقيم والثقافة؟
الحقيقة الواضحة وضوح الشمس أنّ الإسلام والعرب
صنوان، لا ينقسمان. والإسلام هنا بمعنى المشروع الحضاري، وبمعنى كونه فلسفة حياة، وثقافة
بالإضافة إلى كونه ديناً وعقيدة جاءت لاستيعاب كل أصحاب الأديان السابقة في إطار الحرية
والاحترام الذي ينفي كلّ عوامل الإكراه ومصادرة الإرادة الإنسانية والكرامة الآدمية.