السيرك البشري

السيرك البشري
أخبار البلد -  

اخبار البلد 
نادرة هي الحفريات النفسية والاجتماعية في ثقافتنا، ولا ينافسها في هذه الندرة الا النقد التطبيقي، حيث تذهب الحصة كلها الى التأنق النظري والمساجلات حول قضايا مجردة، ولأن من عانوا اختراع واكتشاف الادوات التي احدثت انقلابات كوبرنيكية في عصرنا ليسوا كمن يستهلكونها فقط، فإن صوت المستهلك هو مجرد صدى لصوت المنتج، واحيانا يحاول تقمصه او التماهي معه لكنه يبدو عندئذ اقرب الى الكوميديا.
كان القطار في أدبيات العرب وبالتحديد في المانيا فاصلا في الثقافة والأدب، سواء من حيث الايقاع الجديد الذي اتى به او من حيث عوالمه، لهذا تحول لفترة الى بطل روايات وافلام سينمائية، ورغم ما احدثته المنجزات التكنولوجية الحديثة في واقعنا من تغيرات الا ان رصد هذا التغير بقي ايضا في اطار الصّدى، وقبل ان يستخف فاقدو الصبر من مُستهلكي الثقافة المختزلة على طريقة ما يسمى 'شيء عن كل شيء' بهذا الرصد ثمة ملاحظتان، اولاهما ان ما كتب عن الموبايل وما احدثه من تغيير في عادات التخاطب وعمق النسيح الاجتماعي في عالمنا العربي لا يصل الى مجرد فاصلة في ما كتبه امبرتو ايكو في هذا المجال، وثانيهما ان الناقد روزنتال عندما درس ظاهرة الحداثة في الشعر الاوروبي انطلاقا من بودلير، توقف طويلا عند ظاهرة اعمدة النور في الشوارع، والتي كانت تضاء بشكل بدائي ما قبل الكهرباء، وما اقترنت به هذه الاعمدة اضافة الى مقاهي الأرصفة من خروج البغاء الى العلن، فالليل أصبح له عالمه وكائناته واوشكت ان تزول تلك الاشباح والحكايات التي كانت تولد في الظلام.
* * * * * * * *
الظاهرة الوحيدة التي سأتوقف عندها في هذا السياق هي ما يسمى 'المول' وهو مبنى ضخم يحتوي على ملخصات المدينة كلها، من المقاهي الى المطاعم الى الدكاكين مرورا بالاندية الرياضية والمساحات الشاسعة التي تغري بالتسكع.
لم يكتب عن هذه الظاهرة من المشتغلين في علم النفس الاجتماعي من العرب فيما اذكر الا الدكتور جلال امين، وكانت مقالته المنشورة في مجلة الهلال المصرية قد تمحورت عند مسألتين، الأولى تأقلم الزبائن مع ثقافة الأمر الواقع الاستهلاكية التي يفرضها المول، فهم مثلا يقبلون طائعين بوجود كاميرات ترصد تحركاتهم، وهي اذ تفترض فيهم جميعا بأنهم لصوص محتملون لا ينزعج احد منهم، ما دامت براءته هي الضمانة، ان كاميرات المول واجهزة امنه يشبهان ما سماه الروائي ميلان كونديرا عقابا يبحث عن سارق، فالعقاب مجهّز تماما، واشبه بقبعة فارغة تبحث عن رأس كي تستقر عليه.
والملاحظة الثانية هي ان المول يوفر لزبائنه عربات واسعة تتسع لعشرات السلع حتى لو كانت من الحجم الكبير، لهذا لا بد ان يشعر بالخجل من يضع في العربة سلعا قليلة لا تغطي حتى قعرها، لهذا يتورط من حيث لا يدري وبدوافع سيكولوجية الى شراء ما لا يحتاج اليه.
سأتجاوز ملاحظتيّ د. أمين وهما من صميم التكوين النفسي والاجتماعي لشعوب أدمنت الاستهلاك الى ما اعنيه بالسيرك البشري، فالمول مسرح مفتوح للجميع، ولا يشترط على من يدخله ان يشتري او حتى يتناول شرابا، لهذا اصبح عدد من يرتادون هذا السيرك المجاني اضعاف من يأتون اليه من اجل الشراء، وفي المدن الصغرى والمحافظة وفرت مقاهيه نماذج مصغرة لمقاهي الارصفة في العواصم الكبرى، بحيث ينسى من يجلس فيها بمرور الوقت ان هناك مدينة خارج جدران المول، وان المساحات المكتظة بمن يروحون ويغدون ذكورا واناثا هي شوارع بديلة، هذه هي اول عادة مليئة يمكن رصدها، والمول بحكم سعته وتعود الانماط والنماذج التي تدخل اليه يبدو كما لو انه هامش كوزموبوليتي خارج الزمان والمكان، فما من تضاريس طبقية واضحة فيه، بل هو مجال حيوي وفسيح لما يسمى التسلل الطبقي او الايهام بأن الفروق قد أزيلت بجرة قلم او قرار، باستثناء تلك المحلات المخصصة لبيع السلع الثمينة والتي تبدو احيانا كما لو انها واجهات للعرض فقط، لأن زبائنها محدودو العدد اولا، وقد تصلهم السلع الى بيوتهم من مصادرها الاصلية.
* * * * * *
مدينة مصغّرة، واشبه بنموذج صنع على نحو مضاد للمدينة خارج جدران المول بكل اعرافها وتراثها الطبقي وتباين الدخل لدى الافراد.
من هنا يأتي الدور التمثيلي، او المسرحي لهذه المدينة السيرك، حيث بامكان اي فرد ان يقدم نفسه لساعة او بضع ساعات في الاسبوع وفق ما يشتهي ولن يجد من يعترض على ذلك الا اذا كان له معارف وزملاء يفعلون الشيء ذاته، لهذا ما أن يدرك ان هناك من يعرفه او يرصد حركته حتى تبدأ رحلة البحث عن مسرح آخر.
ان هذا السيرك البشري هو الفرصة البديلة والأدنى لربات البيوت كي يعبّرن عن مستوى ما من الحرية الشكلية والممنوعة من الصرف الاجتماعي، وفي عالمنا العربي تلعب عيادات اطباء الاسنان والأمراض النسائية والمولات وصالونات التجميل والحلاقة دورا هو اقرب الى الذّريعة من اجل قليل من الحرية. وثمة ما يكفي من الافلام السينمائية والروايات الاجتماعية التي رصدت هذه الظاهرة. ولا بد من تواطؤ ما بين من يعبرون عن حرياتهم من النوافذ او الشقوق وليس من الابواب المشرعة، واحيانا ينتهي هذا التواطؤ الذي يبدأ عفويا بما يشبه العقد الاجتماعي الشفوي وغير المدون.
واذا كانت الحيوانات على اختلاف مستوياتها لا تعرف الكذب بمعناه البشري وخارج نطاق الضرورات كالصيد ومكر الاختفاء وتغيير لون الجلد طلبا للنجاة، فإن الإنسان اكتشف الكذب كسلاح سلبي منذ أصبح عضوا في جماعة، واتاحت له اللغة مجالا امتاز به عن سائر الحيوانات كي يكذب من خلالها ويحولها الى ما سماها يوجين يونيسكو في احدى مسرحيات اللامعقول المغنية الصلعاء!
* * * * * * *
ما يقدمه هذا السيرك البشري هو متوالية من الاشباعات الكاذبة والوهمية للرغبات، ومنها تضخّم ما يسمى في علم النفس الفيورزم، او التلذذ بحاسة البصر الفضولية، والمنتهكة للآخر، لكن الانتهاك عندما يصبح متبادلا يدخل في نطاق التواطؤ، وهناك ايضا مجال في هذا السيرك لأن يشمل عرضا من طراز آخر لكن السلع آدمية، فالمدن المحافظة التي تمنع مثل هذه التجارة في حياتها اليومية وتبعا لقوانينها وأعرافها تقدم من خلال السيرك بديلا اشبه بالسوق السوداء. وحين يقال ان المولات او الحيتان التجارية التي ابتلعت الحوانيت الصغيرة كانت مقدمة تجريبية لنمط من العولمة في ذروة التوحش الرأسمالي فإن ذلك يتجلى في عدة امور، منها توفير ما يسيل له لعاب الفقراء تحديدا في مكان هو بمتناول العين المجردة، مما يضاعف من أسباب التنازلات الاخلاقية، فما تقدمه الاعلانات المتلفزة في الليل يتولاه السيرك او المول في النّهار ويقترن المكبوت سواء كان جسديا او نفسيا او طبقيا بهذه المتوالية الشيطانية. وقد يكون ادق وصف للانسان في هذا السيرك هو ما سماه اريك فروم الامتلاك كمقابل للحرية، لهذا لم تعد المقولة الشكسبيرية أكون او لا اكون تلك هي المسألة السائدة بل اصبح السائد والمتعاقد عليه اجتماعيا هو ان املك او ان اكون تلك هي الحياة كلها.
اما نهاية هذا السيرك وحفلته التنكرية فهي فقدان الاثنين معا .. الحرية والملكية. لأن المطلوب أخيرا هو قطعنة الآدميين ونزع اراداتهم وطردهم من الحرية الى الضرورة.

 

 

 


شريط الأخبار الأمم المتحدة حول تفجير أجهزة اتصال في لبنان: جريمة حرب الدفاع المدني يخمد حريق مستودع مفروشات في اربد ويسعف سيدة مصابة ما مصير عقيل وقادة الرضوان وأين كانوا مجتمعين.. معلومات جديدة حول الغارة الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية ماذا دار بين ماكرون ونتنياهو بمحادثتهما المتوترة؟ التربية : لا تغيير على اوقات الدوام والحصص المدرسية غدا السبت خلوة حكوميَّة غداً بعنوان: رؤية التَّحديث الاقتصادي.. ليتواصل الإنجاز لتنظيم عمل الوزارات والمؤسَّسات الحكوميَّة من هو إبراهيم عقيل القيادي في حزب الله الذي أعلن الاحتلال استهدافه في بيروت؟ حسناء البيجر.. لغز سيدة أعمال غامضة ربما تكون وراء تفجيرات لبنان 10 ساعات .. قطع مبرمج للتيار الكهربائي عن مناطق شمال المملكة غداً (أسماء) أفعى الحراشف المنشارية تلدغ ثلاثينية في مندح وتدخلها إلى العناية الحثيثة من هي الدول التي عارضت قرارا أمميا يطالب إسرائيل بإنهاء الاحتلال؟ الهيئة العامة للجنة المالية في اتحاد شركات التأمين تنتخب رئيساً وأعضاءً جدد للجنة التنفيذية.. أسماء لفتح قنوات للتواصل.. حسان يتواصل هاتفيَّاً مع اعضاء مجلس النوَّاب العشرين المنطقة العسكرية الجنوبية تحبط محاولة تهريب مواد مخدرة بواسطة طائرات مسيرة للتذكير.. غدا السبت دوام رسمي للمدارس الحكومية 350 يوما للعدوان.. مجازر بشعة في غزة والحدود اللبنانية تشتعل والكشف عن مخطط "البيجر" هل هواتفنا الذكية معرّضة للانفجار .. تقرير مفصّل هل يحضر نصر الله لعمل "من حيث لا يحتسبون؟".. قراءة في خطاب الأمين العام لحزب الله اللبناني قديروف يتّهم إيلون ماسك ب«تعطيل» سيارته «تسلا سايبرترك» عن بُعد تفاصيل 3 أحداث أفجعت الشارع الأردني خلال أسبوع