العرب شعب عاطفي بجميع فروعه. والأكثر عاطفية فرع النيل، بمن فيه من شعراء وكتّاب وفنانين وغنائيين. وينقسم المصريون حول رجال كثيرين حتى الرموز الكبرى منهم، إلا أم كلثوم التي منحوها ألقاب التمجيد بالإجماع، وأشهرها «كوكب الشرق» و«الست». ودللتها الجماهير في كل مكان باسم «ثومة» على أساس أنها ابنة كل بيت وحبيبة كل حبيب.
تنقسم مصر حول «الفرعونة» الوحيدة الآن مع عرض فيلم ضخم بعنوان «الست» يروي حكاية عمرها مع شيء من «الواقعية». وعندما يستخدم النقاد عبارة «الواقعية» في توصيف المشاهير، فمعنى ذلك أن في العمل ما يثير الجدل حوله.
يُفهم من كتابات النقاد أن الفيلم «يشحل» قليلاً من الهالة التي رافقت «الست» التي عاشت وغابت كأسطورة من أساطير مصر. واعتبرها البعض «الهرم المؤنث» الذي بُني في الوجدان المصري طوبة طوبة. وكانت سيدة الغناء تتصرف على أنها «سيدة مصر» الأولى في سلمها وحروبها. وحفاظاً على هذا الموقع غنت للرؤساء، وغنت للجيش، وغنت للأطفال. وكانت تغني ساعات طويلة من الليل مصاحباً بالآهات، ولا تتعب، لأن «الست» لا تتعب ولا تنافس. والعار لمن تحاول ذلك.
كانت كبيرة بين الكبار وليست مطربة بين المطربات، وكانت كل أغنية حدثاً. الشعر حدث واللحن حدث. والحضور حدث. هي الهادي آدم وهي أحمد رامي ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي. فقط الكبار وذوو الهالات وحراس الجنة.
مضى على غيابها نصف قرن، وتغيرت أجواء الطرب... ولم يعد المغني ديكتاتوراً مثلها. ولم تعد صالة الآلاف من مجانين الآهات والتأوهات الذين يعتقدون أن «الست» تغني لكل واحد منهم إلى أن يطلع الفجر ويأخذه بحنانه. لم يعرف العالم علاقة بين المغني والجمهور كما عرفها بين أم كلثوم وجماهير العرب. جمهور متقدم في السن، متقدم في الوقار، يأتي المسرح مثل الأطفال يوم العيد كي يهتف لها ويتأوه ويتلوى، كأنما هي المسؤولة عما أضاء من عمره. هي مسؤولية الحذر والضياع وصرف الأعمار في المسارح والجموع التي يختلط عليها الفرح والعذاب.



