تواجه "خطة ترامب لإنهاء الحرب في قطاع غزّة" صعوبات جمة تحول دون وضعها موضع التطبيق الكامل، فمنذ الإعلان عن الموافقة عليها منذ أكثر من شهرين، تقوم إسرائيل بعمليات عسكرية في القطاع، وتواصل قصف المدنيين ومطاردتهم وتعمد تجويعهم، بمنع دخول ما يقرب من 75% من العدد المتفق عليه من شاحنات المعونة الإنسانية. ورغم تصريحات أدلى بها ترامب أخيراً تؤكد أن تنفيذ المرحلة الثانية من خطته "سيبدأ قريبا"، لا شيء يوحي أنها قادرة فعلاً على "فتح طريق نحو أفق سياسي طويل الأمد، بما في ذلك إمكانية تحقيق دولة فلسطينية"، كما ينص البند 20 من هذه الخطة. ولأنه بات واضحاً للعيان أن رئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، يتعمّد وضع العصي في عجلات خطّة ترامب، بل ويتمنّى لو بمقدوره إفشالها كليّاً، رغم حرصه الشديد على تجنب الدخول في صدام علني مع ترامب، فليس مستبعداً أن تنجح الخطّة في إنهاء حرب غزّة التي لم تنطفئ تماماً بعد، من دون أن تتمكّن من التوصل إلى تسوية تعالج جذور الصراع المحتدم في المنطقة منذ ما يزيد على قرن، ما يعني أن أقصى ما يمكن لهذه الخطة أن تحقّقه هدنة، قد تكون أطول أو أقصر من هدن أخرى كثيرة سبقتها. وبالتالي، الأرجح أن تكون المنطقة في طريقها للدخول في مرحلةٍ تتسم بتجميد الصراع مؤقتاً، وليس حلّه، من دون أن يكون بمقدور أحد معرفة متى ولا كيف سيشتعل من جديد.
للتوصّل إلى حل نهائي لهذا الصراع، يحتاج الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي أن يتوافقا على واحد من بديلين لا ثالث لهما: التعايش السلمي داخل دولتين مستقلتين ومتجاورتين يرتبطان معاً يضمن لهما الأمن المتبادل والتعاون المشترك، أو القبول بدولة ثنائية القومية داخل حدود فلسطين التاريخية، يديرها نظام ديمقراطي يضمن لجميع مواطنيه (المسلمين والمسيحيين واليهود) حقوقاً متساوية من دون تمييز. وبينما يبدو الشعب الفلسطيني جاهزاً ومستعدّاً لقبول أيٍّ من هذين البديلين، يبدو المجتمع الإسرائيلي رافضاً كليهما، ومصمّماً على مواصلة إدارة الصراع، لا حله، إلى أن يكتمل المشروع الصهيوني بإقامة "إسرائيل الكبرى"، فالأغلبية الساحقة من الإسرائيليين ترفض "حلّ الدولتين"، خصوصاً أنه يتطلب إزالة المستوطنات اليهودية المقامة حالياً في الضفة الغربية التي تصرّ على أنها أرض يهودية وليست محتلة، كما ترفض، في الوقت نفسه، حل "الدولة الواحدة ثنائية القومية" لأسبابٍ ديموغرافيةٍ تتعلق باحتمال تراجع أعداد اليهود الذين يرجّح أن يتحوّلوا تدريجياً إلى أقلية تتحكّم فيها أغلبية فلسطينية في مستقبل منظور. ولأن الحلول الاقتصادية التي تطرحها بين حين وآخر أوساط أميركية وإسرائيلية، كبناء "ريفييرا" متوسّطية في قطاع غزّة أو إقامة مشرعات تنموية عملاقة في المناطق المتاخمة للحدود، تبدو أشبه بالسراب وغير قابلة للتنفيذ، لأن هدفها الحقيقي الالتفاف على حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، فالأرجح أن تبقى القضية الفلسطينية بلا حل جذري أو تسوية مقبولة، وهو ما سيؤدّي إلى تكريس حالة عدم الاستقرار في المنطقة عقوداً طويلة مقبلة، ويفرض على الدول العربية ضرورة الاستعداد لإدارة الصراع مع مشروع صهيوني بات واضحاً، بما لا يقبل أي مجال للشك، أنه يسعى إلى الهيمنة على المنطقة برمتها، وبالتالي، لن يكتفي بابتلاع فلسطين.
لم يكن بمقدور الدول العربية تبنى استراتيجية فاعلة لإدارة الصراع مع المشروع الصهيوني في أيٍّ من مراحل تطوره، فحين تأسّست الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر، كانت معظم الدول العربية تحت الاحتلال الأوروبي. وحين اندلعت الحرب العالمية الأولى، تحالف زعماء "الثورة العربية الكبرى" مع بريطانيا ضد الامبراطورية العثمانية، ظناً أن هذا التحالف سيتيح أمامهم فرصة لتحقيق حلم إقامة دولة عربية موحّدة في المشرق العربي (مراسلات حسين- مكماهون من 14/7/ 1915-10 /3/ 1916)، وحين اكتشفوا أنهم تعرّضوا للخديعة، وأن بريطانيا أبرمت مع فرنسا معاهدة سرّية لاقتسام النفوذ على المشرق العربي (اتفاقية سايكس- بيكو: 16/5/1916)، ثم أصدرت بعد ذلك وعد بلفور (2/11/1917) الذي تعهدت بريطانيا بموجبه مساعدة الحركة الصهيونية على إقامة "وطن قومي لليهود في فلسطين"، كان الوقت قد فات، وبدأ الحلم الصهيوني يتجسّد واقعاً على الأرض الفلسطينية.
تعيّن على الشعب الفلسطيني أن يناضل وحيداً ضد قوى لا قبل له بها طوال مرحلة الانتداب البريطاني (1922- 1948)، لكنه لم يقصّر، وتمكّن من إشعال ثوراتٍ لم تنقطع ضد الاحتلال البريطاني من ناحية، وضد الهجرة اليهودية المنظّمة والمسلحة من ناحية أخرى، بينما كانت بقية الشعوب العربية مشغولةً بالنضال ضد قوى استعمارية تحتل أوطانها. وحين أتيح للأقطار العربية التي تتمتع باستقلال نسبي أن تنشط لتأسيس جامعة الدول العربية، بدأ وعيها بخطورة المشروع الصهيوني على العالم العربي ككل يزداد ويترسّخ، وهو ما ظهر بوضوح إبّان مناقشة خطة تقسيم فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، حيث أجمعت الدول العربية الأعضاء في الأمم المتحدة على التصويت ضد قرار التقسيم، ووصل هذا الوعي إلى ذروته بقرار جامعة الدول العربية التدخل العسكري في فلسطين عقب إعلان قيام الدولة اليهودية من جانب واحد في 14/5/1948.
السلام القابل للدوام في المنطقة لن يتحقّق إلا بقيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتلت في 1967، أو دولة ثنائية القومية
لم يكن قرار التدخّل العسكري ناجماً عن رؤية عربية موحّدة لإدارة الصراع مع المشروع الصهيوني، بقدر ما كان استجابة لضغوط جماهيرية تطالب حكوماتها بالتضامن مع الشعب الفلسطيني من ناحية، ومحصّلة لمناورات سياسية عكست أجندات متضاربة لزعامات عربية متنافسة من ناحية اخرى، لكنه أفضى إلى كارثة كبرى حلت بالشعب الفلسطيني وبالأمة العربية ككل. فقد اتسمت الإدارة العربية لهذه الجولة من الصراع المسلح مع إسرائيل بقدر كبير من الفوضى والعشوانية، ما مكن إسرائيل من توسيع المساحة المخصصة لها في قرار التقسيم، حيث تمكنت من السيطرة على ما يقرب من 78% من مساحة فلسطين التاريخية، واستحوذت على الباقي دولتان عربيتان، حيث خضع قطاع غزة لسلطة الإدارة المصرية، وأدمجت الضفة الغربية في إمارة شرق الأردن لتشكلا معاً المملكة الأردنية الهاشمية. ولأن إسرائيل ارتكبت في هذه الحرب عملية تطهير عرقي، ترتب عنها طرد ما يقرب من نصف الشعب الفلسطيني الذي تحول إلى لاجئيين (750 ألف لاجئ)، فقدت القضية الفلسطينية زخمها السياسي، باعتبارها قضية شعب محتل يناضل من أجل الاستقلال، وجرى اختزالها في بعد إنساني جسّدته مشكلة اللاجئين الذين تكفلت بهم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). ولأن هذه الهزيمة ولّدت لدى الجيوش قناعة بأن المشكلة تكمن في فساد النظم الحاكمة، وبالتالي، يبدأ طريق النصر بتغيير هذه النظم، فقد كان لها تأثيرات بعيدة المدى على مستقبل المنطقة التي دخلت، منذ ذلك الحين، مرحلة جديدة اتّسمت بسيطرة المؤسّسة العسكرية على الحياة السياسية في عدة أقطار عربية.
لم ينجم عن هذا التحوّل في طبيعة النظم العربية الحاكمة تغير نحو الأفضل في إدارة الصراع مع المشروع الصهيوني. صحيحٌ أن هذا التحوّل أدّى إلى ظهور خطاب سياسي جديد يرى في المشروع الصهيوني مصدر التهديد الرئيسي للأمة العربية ككل، وتسبب في سلسلة طويلة من الحروب (في 1956 و67 و73، بالإضافة إلى حرب الاستنزاف: 1968- 1970)، لكن التنسيق العربي المشترك غاب عن معظم هذه الحروب الذي انتهت بهزائم عسكرية قاسية، فباستثناء حرب 73 التي اتسم أداء الجيوش النظامية فيها بالتميز والإتقان، أفضت باقي الحروب، خصوصاً حرب 67، إلى نتائج كارثية لم تتمكن الدول العربية من إزالة آثارها السلبية. والمفارقة الكبرى هنا أن سوء الإدارة السياسية لحرب 73 تكفّل بتبديد إنجازاتها العسكرية والاستراتيجية، فرغم أنها الحرب الوحيدة التي جمعت بين روعة الأداء العسكري للجيوش العربية وذروة التضامن السياسي للحكومات، إلا أنها مهدت الطريق نحو زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى القدس، التي أحدثت شرخاً عميقاً في النظام العربي. الأخطر أن النظم العربية الحاكمة بدأت منذ ذلك الحين تتخلى عن السلاح وتتّجه نحو الدبلوماسية وحدها في إدارة الصراع مع المشروع الصهيوني، في وقت كانت إسرائيل تزداد تطرفاً ووحشية، ولا تخفي إصرارها على التصفية النهائية للقضية الفلسطينية.
فقدت القضية الفلسطينية زخمها السياسي باعتبارها قضية شعب محتل يناضل من أجل الاستقلال، وجرى اختزالها في بعد إنساني
في سياق الفراغ الذي تركته الجيوش العربية، بدأت فصائل المقاومة المسلحة تتقدّم لتحتل الصفوف الأولى في ساحة المواجهة مع المشروع الصهيوني، بينما راحت الجيوش النظامية العربية تتراجع لتحتل الصفوف الخلفية، إلى أن وصلنا إلى "طوفان الأقصى" الذي لم يكن سوى صاعق تفجير لمواجهة نوعية غير مسبوقة في تاريخ المواجهات المسلحة مع إسرائيل. فرغم غياب الجيوش العربية النظامية عن هذه الجولة من جولات الصراع المسلح مع إسرائيل، واقتصارها على فصائل المقاومة العربية، إلا أن هذه الحرب تواصلت عامين لأول مرة في تاريخ الصراع مع إسرائيل، ولم تقتصر ميادين القتال فيها على الساحتين الفلسطينية واللبنانية، مثل ما جرت العادة منذ حرب 1973 التي اعتبرها السادات آخر الحروب، وإنما اتسعت المعارك لتشمل ساحات عربية أخرى كثيرة، كاليمن والعراق وسورية، بالإضافة إلى إيران التي دخلت في مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل، وذلك لأول مرة في تاريخ الصراع المسلح في هذه المنطقة من العالم. وكلها مؤشّرات على أن الصراع في المنطقة بدأت تطرأ عليه تحوّلات جيوسياسية وجيوستراتيجية عميقة.
لم تحسم بعد جولة القتال التي فجرها "طوفان الأقصى". ورغم إصرار نتنياهو على مواصلة القتال إلى أن يتمكّن من تحقيق "الانتصار المطلق" الذي يتطلع إليه، إلا أن من المستبعد أن يتمكّن حالياً أو حتى في المستقبل المنظور من أن ينجز ما عجز عن تحقيقه في العامين الماضيين. لذا الأرجح أن تنجح "خطة ترامب" في التوصل إلى هدنة تنهي القتال أو الحرب، وليس إلى تسوية تنهي الصراع، لأن السلام القابل للدوام في المنطقة لن يتحقّق إلا بقيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتلت في 1967، أو دولة ثنائية القومية يتمتع فيها الفلسطينيون بحقوق متساوية مع اليهود، وكلاهما غير قابل للتحقق إلا بانهيار الأيديولوجية الصهيونية، ويتوقع أن تشهد المنطقة جولات قتال أو حروباً أخرى سوف تفرض على الدول العربية بلورة رؤية جديدة لإدارة الصراع، تستفيد من تجاربها الفاشلة في إدارة الجولات السابقة.

