قبل أن تبدأ ريم بمحاولة دراسة فصل واحد من كتابها، تقلب إصبعها تلقائيا في الـ"ريلز". بعد عشر ثوان فقط، يتبخر تركيزها. ومع كل فيديو، تشعر بأن دماغها يقفز مثل حبات البوشار على النار من دون أن تعرف أن هناك اسما علميا لما يحدث لها.
ريم محمد، طالبة السنة الثالثة في الجامعة، لم تعد قادرة على التركيز لأكثر من عشر ثوان في دراستها بعد أن اعتادت على مقاطع الـ"ريلز" السريعة، التي تستحوذ على معظم وقتها خلال اليوم. ومع مرور الوقت، أصبحت المشاهدة تلقائية، حيث يمر الوقت من دون أن تشعر، حتى يتدخل ألم الرقبة وصداع الرأس لإيقافها.
حال ريم لا يختلف كثيرا عن حال أحمد العلي، الذي أصبح شخصا متسرعا وغير صبور. يبحث عن السرعة والاختصار في كل مهمة، حتى أصبح لا يستطيع سماع حديث يتجاوز الدقيقتين، ويدرك فقط بعد مضي الليل أنه أضاع الوقت في تصفح المقاطع القصيرة. تأثير مشابه يعاني منه خالد، الذي أصبح صوت إشعارات الهاتف مصدر توتر وقلق مستمرا، خصوصا عند تلقيه إشعارا أثناء العمل.
توضح هذه الحالات ما أطلق عليه الباحث ديفيد ليفي من جامعة واشنطن العام 2011 اسم متلازمة "دماغ البوشار"، وهي حالة ذهنية تتميز بالأفكار المتناثرة والانتباه المجزأ، حيث يتحول العقل إلى الانتقال السريع من موضوع إلى آخر، كما لو كانت حبات البوشار تتطاير في المقلاة. تتسبب هذه المتلازمة بتحفيز مفرط للدماغ نتيجة التنقل المستمر والسريع بين التطبيقات والمقاطع القصيرة، ما يجعل الأفكار تتطاير بسرعة كبيرة ويصعب على العقل التركيز على مهمة واحدة لفترة ممتدة.
العالم النفسي الدكتور دانيال غليزر وعالمة النفس دانييل هيغ، أكدا أن التحفيز المستمر الناتج عن التنقل السريع بين المقاطع القصيرة يؤدي إلى إفراز كميات صغيرة من الدوبامين، وهو هرمون السعادة الذي يغذي دورة التصفح المستمرة ويزيد تعلق الدماغ بالمقاطع القصيرة، ما يقلل من القدرة على التفكير العميق والتركيز على مهام طويلة.
وأظهرت دراسة حديثة أن 62.3 % من سكان العالم يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، بمتوسط استخدام يومي وصل إلى ساعتين و23 دقيقة، ما يضاعف من تأثير التحفيز الرقمي على الدماغ ويزيد من احتمالية حدوث التشتت الذهني والقلق.
الخبير التربوي الدكتور عايش النوايسة، يشير إلى أن الاستخدام المكثف للتطبيقات الرقمية يؤدي إلى إجهاد الدماغ، تراجع القدرة على التركيز، زيادة القلق والتوتر، وضعف الذاكرة قصيرة المدى، ويؤثر بشكل أكبر على الشباب والمراهقين نظرا لكون أدمغتهم ما تزال في مرحلة البناء، ما يجعل معالجة المعلومات وتخزينها أكثر هشاشة.
ويضيف أن الاستخدام المفرط للهاتف لساعات طويلة يوميا ينعكس أيضا على الصحة الجسدية، إذ يؤدي إلى إرهاق العينين وزيادة احتمالية السمنة نتيجة الجلوس الطويل وقلة الحركة، بالإضافة إلى التوتر النفسي الناتج عن التنقل المستمر بين المهام والمقاطع الرقمية.
ومن جهته، أكد خبير مواقع التواصل وأمن المعلومات الدكتور عمران سالم، أن التعرض المستمر للمحتوى الرقمي السريع، وخاصة الفيديوهات المصممة لجذب الانتباه بسرعة، يجعل الدماغ يعتاد عدم بذل جهد في التفكير، ما يؤدي إلى تراجع القدرات العقلية مع مرور الوقت.
وأضاف أن اختيار محتوى مفيد، مثل الكتب الإلكترونية والمقالات العلمية والدورات التعليمية، يمكن أن يقلل من تأثير التصفح السطحي ويزيد من قدرة الدماغ على التركيز والتفكير العميق.
كما اتفق الخبراء على أن ممارسة أنشطة غير رقمية، مثل القراءة المكثفة، التأمل، أو التواصل المباشر مع الآخرين، واستخدام أوقات محددة للتصفح بدل الانشغال العشوائي طوال اليوم، والحد من عدد ساعات استخدام الهاتف وضبط الإشعارات لتقليل الضغط الذهني، كلها طرق تساعد على حماية الدماغ من التشتت المستمر والحفاظ على الصحة النفسية والجسدية، مع تعزيز القدرة على إنجاز المهام اليومية بشكل أكثر فعالية.
تشير الدراسات إلى أن المشتتات الرقمية لها انعكاسات كبيرة على الأداء الأكاديمي والتحصيل الدراسي للأطفال، كما تزيد من القلق والتوتر، وتؤثر على العلاقات الاجتماعية، ما يجعل من الضروري إبعاد الهواتف عن الأطفال الذين اعتادوا استخدام هواتف والديهم، وتوعية الشباب بالتعامل المسؤول مع الأجهزة والتطبيقات الرقمية.
في عالم يتحرك بسرعة الـ"ريلز"، يبدو أن دماغ الإنسان ما يزال يحتاج إيقاعا أبطأ ليفكر ويتذكر ويستعيد تركيزه. وربما، قبل أن يتحول دماغنا إلى "بوشار" رقمي، نحتاج فقط لأن نهدئ الشاشة.. ونترك عقولنا تستقر، لنستعيد القدرة على التركيز، التعلم، والإنتاجية الحقيقية.