في مشهد معقّد ومتعدد الأوجه، تُشكّل العلاقة بين عشائر البدو والطائفة الدرزية في جنوب سوريا واحدة من أبرز صور التداخل الاجتماعي والسياسي في تاريخ البلاد. علاقةٌ اتّسمت بتوازنات دقيقة بين التعايش والتصادم، مدفوعة بالجغرافيا والموارد والتحولات السياسية، ومحكومة أحيانًا بحدّ السلاح، وأحيانًا أخرى بروابط المصاهرة والمصالح المتبادلة.
اشتباكات يوليو 2025: انفجار الوضع مجددًا
اندلعت في تموز/يوليو 2025 اشتباكات مسلّحة بين مجموعات من البدو والدروز على خلفية حادثة اختطاف، لتُعيد إلى الواجهة توترات قديمة، ازدادت تعقيدًا مع غياب سلطة الدولة وانتشار السلاح. هذه الاشتباكات لم تكن الأولى، لكنها تُعدّ واحدة من أخطر المواجهات منذ سنوات، حيث تجاوزت الحوادث الطابع الفردي، وشهدت تدخّل مجموعات مسلّحة، ما يدل على هشاشة الوضع الأمني، وضعف الوساطات التقليدية.
من التعايش إلى التوتر: ما الذي تغيّر؟
عبر العقود، لم تكن العلاقة بين البدو والدروز علاقة صراع دائم، بل كانت تقوم على توازن هش بين الاحتكاك والتحالف. ومع ذلك، فإن التهميش الاقتصادي والسياسي، وتراجع دور الدولة منذ 2011، أسهم في تفكيك منظومة التعايش القديمة، وفتح الباب أمام صراعات تُهدد النسيج الاجتماعي في الجنوب السوري.
البدو في سوريا: هوية راسخة وتاريخ طويل من التنقّل
تمتد جذور القبائل البدوية في سوريا إلى ما قبل الإسلام، وتوزعت في البادية السورية من دير الزور والرقة شمالًا، إلى البادية الشرقية لحمص وحماة، وصولًا إلى حوران جنوبًا. هذه القبائل، مثل عنزة، شمر، الجبور، والبقارة، عاشت حياة قائمة على الترحال والرعي، وكانت لها علاقات متقلبة مع الدولة، تراوحت بين الاستيعاب والتهميش.
خلال العهد العثماني، لم تتمكن الدولة من إخضاع البدو بالكامل، فاعتمدت على سياسة الاحتواء عبر الهدايا والتحالفات. وفي عهد الانتداب الفرنسي، حاولت السلطات تنظيم وجودهم عبر وحدات إدارية خاصة، دون المساس ببنيتهم التقليدية، مع استغلالهم أحيانًا لضبط المناطق النائية.
بعد الاستقلال، حاولت الحكومات السورية دمج البدو ضمن الدولة الحديثة، لكن النتائج بقيت محدودة، خصوصًا في ظل استمرار التهميش وغياب الخدمات. أما خلال الأزمة السورية الأخيرة، فقد زادت معاناتهم بفعل النزوح والتدهور الاقتصادي، وانخراط بعض أبنائهم في النزاعات المسلحة.
الدروز: من الهجرة إلى التمركز في جبل العرب
تنحدر الطائفة الدرزية من أصول إسماعيلية فاطمية، وبدأت هجرتها إلى جنوب سوريا، وتحديدًا إلى جبل حوران، منذ القرنين السابع والثامن عشر، هربًا من الاضطهاد، وبحثًا عن أرضٍ مستقرة. مع مرور الوقت، نشأت قيادة قوية للطائفة في المنطقة، أبرزها آل الأطرش، وتمكنت من تشكيل كيان اجتماعي وسياسي مؤثر.
في عهد الانتداب الفرنسي، مُنح الدروز نوعًا من الحكم الذاتي تحت مسمى "دولة جبل الدروز" بين عامي 1922 و1936، ما أثار حساسية باقي المكونات السورية، واعتُبر محاولة لتقسيم البلاد. بعد الجلاء، شارك الدروز في بناء الدولة السورية الحديثة، لكنهم حافظوا على خصوصيتهم الثقافية والدينية، وتمركزوا في محافظة السويداء.
تعايش هشّ وتحالفات اضطرارية
يشكّل الصراع والتعاون بين البدو والدروز نموذجًا كلاسيكيًا للاحتكاك بين مجتمعات رعوية متنقلة وأخرى زراعية مستقرة. مع توسّع الدروز في جبل حوران، تزايدت النزاعات حول المياه والمراعي. ومع ذلك، نشأ نوع من التعايش الضروري، تحكمه المصالح: البدو يقدّمون الحماية وينتجون الماشية، والدروز يوفّرون المحاصيل الزراعية.
كما شهدت العقود الماضية تحالفات، أبرزها خلال الثورة السورية الكبرى (1925-1927) ضد الفرنسيين، حين قاتلت عشائر بدوية إلى جانب القائد سلطان باشا الأطرش.
تطورت أيضًا أنماط اجتماعية مشتركة، منها "نظام الخاوة" – دفع مبالغ للبدو مقابل الحماية – والمصاهرات التي ربطت بعض العائلات من الجانبين، مما أسهم في تخفيف حدّة التوتر في فترات معينة.
الانهيار بعد 2011: تفكك المجتمعات وصعود الفوضى
مع تفكك مؤسسات الدولة بعد اندلاع الأزمة السورية، دخلت العلاقة بين البدو والدروز مرحلة جديدة وخطيرة. لم تعد الصراعات تُحل عبر الوجهاء أو الأعراف العشائرية، بل انخرطت جماعات مسلحة في الصراع، بعضها يتلقى دعمًا خارجيًا، وبعضها يُوظّف الخطف والابتزاز كأدوات ضغط.
وتحول التنافس القديم على الأراضي والمياه إلى معارك دامية على الهوية والنفوذ، تُغذّيها قنوات خارجية ومصالح محلية ضيقة، في وقت تتراجع فيه فرص التهدئة أو الحلول المستدامة.
خلاصة: التاريخ لا يُعيد نفسه بل يُحذّرنا
تاريخ العلاقة بين البدو والدروز ليس تاريخًا للصراع فقط، بل أيضًا لسُبل التعايش والتكامل. غير أن الظروف السياسية والاقتصادية المتدهورة، وتراجع دور الدولة، سهّلت انفجار النزاعات، وجعلت الحلول أكثر تعقيدًا.
إن فهم هذا التاريخ، بكل تداخلاته وتحوّلاته، ضرورة ملحّة لإعادة بناء أسس التفاهم المجتمعي، ومنع تحوّل الجنوب السوري إلى ساحة مفتوحة لصراعات لا رابح فيها.

