أخبار البلد - لم تكن العلاقات بين بريتوريا وواشنطن في أفضل حالاتها بالفعل، في أعقاب التقارب بين الدولة، الأكثر أهميةً أفريقياً، ومجموعة بريكس (تضم حالياً إيران)، فضلاً عن دفاعها عن القضية الفلسطينية أمام محكمة العدل الدولية. ولكن غضب دونالد ترامب انفجر أخيراً وبشكل متصاعد، بداية من تدوينه في "تروث سوشيال": "جنوب أفريقيا تصادر الأراضي، وتُعامل فئات معينة من الناس بشكل سيئ للغاية"، ولتتحوّل التدوينات قراراتٍ. ومن بين إجراءات دونالد ترامب، في بداية ولايته الجديدة المثيرة، كان تعليق المساعدات والتمويل المخصّص لجنوب أفريقيا، بموجب مرسوم. ردُّ فعلٍ وحشيٍّ على التشريع في جنوب أفريقيا، الذي يسمح للدولة بمصادرة بعض الممتلكات الزراعية الخاصّة إجراءً من أجل المصلحة العامّة، وفي بعض الحالات الاستثنائية من دون تعويض. إنها قضية سياسية محلّية تشكّل محور المناقشات الوطنية منذ نهاية نظام الفصل العنصري، وهي أكثر تعقيداً بكثير ممّا يبدو أن المقيم الجديد في البيت الأبيض يفهمه. وتتصاعد التوتّرات بين إدارة ترامب وجنوب أفريقيا، المتّهمة بإصدار قوانين عنصرية ضدّ مواطنيها البيض، لتصل إلى مرحلة إعلان وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، أن سفير جنوب أفريقيا لدى الولايات المتحدة "شخص غير مرغوب فيه"، متّهماً إياه بـ"كراهية دونالد ترامب".
أسبابٌ عديدة تعمل على تعزيز التوتّرات بين البلدَين، وتزيد من خطر تصعيدها، بداية من وجود الملياردير الأميركي إيلون ماسك في فريق الرئيس ترامب، الذي نشأ في جنوب أفريقيا في ظلّ نظام الفصل العنصري، وكان والداه من الأثرياء، ووصف قانون نزع الملكية بأنه "عنصري بشكل علني". كما أن العقوبات الأميركية على المحكمة الجنائية الدولية زادت من حدّة التوتّرات، لأن بريتوريا وضعت نفسها في طليعة الجهود الدولية لوصف الحرب في غزّة بأنها "إبادة جماعية".
في مواجهة هذا التدخّل في السياسة الداخلية لدولة أجنبية، دعا الرئيس الجنوب أفريقي، سيريل رامافوزا، أولاً إلى الهدوء، ثمّ أوضح أن "حكومة جنوب أفريقيا لم تصادر أيّ أرض"، في حين ندّد بـ"حملة التضليل" التي شُنَّت ضدّ بلاده. وفي مواجهة الصلف الأميركي، أكّد رامافوزا: "نحن، الجنوب أفريقيين، شعب مرن، ولن نخاف"، قبل أن يوضّح: "جنوب أفريقيا ليست مقاطعة تابعة للولايات المتحدة".
التزام جنوب أفريقيا بالقضايا العادلة مبرّرٌ بتاريخها، وانتقالها الناجح، ومصالحها، وقدراتها
ما تتعرّض له جنوب أفريقيا يهمّ القارّة الأفريقية بأكملها، والشعوب الحرّة كلّها، ورغم أن بعض الأنظمة وجزءاً من شعوبها كانت تأمل في فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية، ينبغي على السلطات الأفريقية المختلفة، من دون تأخير، أن تقيّم العواقب المحتملة للثقافة السياسية التي استقرّت في البيت الأبيض. انتقادات ترامب التشريعات في جنوب أفريقيا ليست سوى الجزء الظاهر من قضية أكثر تعقيداً بكثير؛ حرمان جنوب أفريقيا من الخيارات السيادية في السياسة الخارجية، بمجرّد تعارضها مع خيارات إدارة ترامب.
المسافة الفاصلة بين جنوب أفريقيا والولايات المتحدة الحالية هي نفسها الفاصلة بين نيلسون مانديلا وترامب؛ بين الدفاع عن الحقوق العادلة والانحياز للمضطهدين، وخطاب الاستعلاء العنصري المقيت، الذي لا يرى في الآخرين سوى أدوات استعمالية لخدمة مصالح الدولة العظمى، التي تنهار أخلاقياً بشكل متسارع، فاللوثة "الترامبية" (إن صحّ التعبير) ليست عقيدةً، ولا أيديولوجيا، في حدّ ذاتها، لكنّ شخصية ترامب تندرج ضمن مجموعة تقاليد كانت متجذّرةً منذ فترة طويلة في المشهد السياسي الأميركي. إنها تركّز في بعض الفِكَر الرئيسة، وتكثّفها في شعارات فضفاضة. وتتمثّل الفِكَر الرئيسة في تثمين "الشعب" المعارض للنخب السياسية والفكرية، والقومية الانعزالية طوعاً، والحمائية الاقتصادية، والعداء للضرائب والهجرة، وإضفاء الشرعية على الممارسات الاستبدادية التي ترفض كلّ معارضة. الشعار "أميركا أولاً" الذي أُطلق في عشرينيات القرن الماضي في عهد جماعة كوكلوكس كلان، وأحياه المرشّح غير الناجح بات بوكانان في 1992، قبل أن يتبنّاه ترامب من دون تحفّظ.
في المقابل، التزام جنوب أفريقيا بالقضايا العادلة مبرّرٌ بتاريخها، وانتقالها الناجح، ومصالحها، وقدراتها، واستمرار أشكال الهيمنة التي ينبغي مواجهتها، وهو مدفوع أيضاً بخطابٍ مناهضٍ للإمبريالية. والسفير إبراهيم رسول هو امتداد لخطّ مانديلا المناضل، الذي لا يهادن الظلم ولا يتنازل لمنطق العنصرية المقيت، الذي يتعامل مع الشعوب كأنّها كائنات مجهرية قابلة للإفناء والتدمير أو في أحسن الحالات للنقل والتهجير نحو مستعمرات يعدّها الرجل الأبيض ويشرف عليها.
بين مانديلا وترامب

سمير حمدي