ترتفع أصوات المنادين بدعم الاستثمار والقطاع الخاص. إنها اصوات ولحن موسيقي يُلعَب على وتر تعبنا من تكراره دون تحديد «أولويات الوصفة العلاجيه».
فكلما تتغير او تضيق الظروف؛ وكلما يرتفع صوت القطاع الخاص مباشرة او من خلال مايكروفونات متناغمة معه، يزداد الانتقاد؛ وكلما تنخفض قليلا ارباح الشركات في القطاع الخاص؛ أو تنخفض قليلا أرباح المستثمر الفردي او يفشل في تنفيذ مشروعه؛ وكلما جاءت حكومة جديدة تتعالى الأصوات او تبرز الأحاديث والكتابات والاسئلة عن ضرورة تشجيع الاستثمار.
العديد لا يدرك ان حصاد الاستثمار في الأصل مرجعه اولا وآخرا معادلة تبدأ بحسن اختيار المشروع وحسن دراسة جدواه المالية والاقتصادية وحسن تنفيذه وادارته. ثم تأتي البيئة.
قرأت على الصحف مقابلات وعناوين حول «تشجيع الاستثمار"؛ كتابات تدل على حماسة وغِيرَة وصدق. كما فيها تعميم وتظاهر وتنابز..
إنها سلّة وخليط من صدقٍ في السعي، وجمهرة وضوضاء.. وغيرها...
لقد سمعت نبرات وطنية وتكراراً احياناً مملاً، لإفرازات علل في الاستثمار ووصفات علاج مستعجلة، بعضها يفتح الأعين، وثانية تغلقها. ومن ذلك: الحاجة لترويج الاستثمار؛ والحاجة إلى إرادة حقيقية للتغيير؛ وتقديم حوافز؛ ومراجعة شاملة للانظمه لجعلها مستقرة وتنافسيه؛ وآليات مبتكرة للاستثمار... الخ..؟
نعم، ونعم، للاستثمار، والعناية به، ولا، ثم لا، ثم لا، «للاستهلاك المُفْرِط الاستعراضي للفرد والمؤسسات (خاصة ان معادلة الادخار سلبية عندنا)» فالاستهلاك الجامح هو من قبيل الاستعراض وسوء التدبير، كونه لا يرتبط بدخول مستقلة. بل سلوك مؤسسي وفردي في اقتصاد يتصف بعجوزات في موازناته المالية العامة والمنزلية، فلا ادخار كافياً في الدخل كما هو عند الهندي (40%) والأوروبي 10%. فالادخار فضيلة؛ فالادخار والاستثمار قاعدة النماء والاستدامة.
وهنا أحاول ان أتجنب النظريات نحو الممارسة والواقع واقول: ان لدينا وفْرةً في التشريع، وعجوزات في التنفيذ!
لقد احسن رئيس الوزراء الدكتور جعفر حسان، بفهمه وخبرته، حين تبنّي تكليف جلالة الملك له العناية بالمشروعات الكبرى (الشاقلة الرافعة).
وبمقتضى ذلك، نقل الرئيس لوزرائه بعضا من أولوياتنا الحالية الرئيسة، كالمياه والنقل والطاقة والقطاعات الواعدة. ولكن أجد نفسي مصراً، وأضيف لما سلف من مناشدات استثمار: ان ما في التشريع القائم إرادة واضحة للتغيير؛ وما في التشريعات الجديدة وحتى قانون العقوبات رقم 16 عام 1960، مع تعديلاته حتى 2024، هناك مواد محفزّة ومانعة ومُسائلة، وحامية، بل عُرْفية لمعالجة سوء التدبير وعدم الاستقامة. اما طول اجراءات اتخاذ القرارات في الادارة فهي علّة وطريق آلام للمستثمر والمواطن.
كما وإن طول اجراءات التقاضي، خاصة التقاضي المالي والحقوقي، لا الجزائي، مازال مطلبا عاليا، رغم ما تحقق. هو مأخذٌ طاردٌ للاستثمار، وعلّة ثقيلة، تقتضى المراجعة والفصل؟
إنني اجتهد وأرى أن الأصوات والنبرات الناقدة «ليست جميعها» في موضعها تماما؟ أليس واضحا اليوم، ومُدْرَكاً، أن «البيئة الاقليمية المحيطة»، التي نعمل تحتها ونستثمر، ثقيلة، طاردة، او مُحيِّدة لنمو الاستثمار (المحلي والخارجي)؟؛ ففيها توتر إقليمي، ونزاعات، وتوحش وتجاوز على القواعد الدولية والإنسانية. ورغم ذلك، تبقى التحية مستحقة لمؤسساتنا الأمنية؛ والعناية واجبة بالمستثمر الوطني والأجنبي، المحافظ على استثماراته في هذه الحقبه.
إن الظروف المذكورة تستوجب التفهُّم والترَّوي من الناقد، ليتاح لاجهزة الدولة العمل برَوِيَّةٍ، لتنفيذِ رؤيةً متوازنةً. ونبقى، اليوم، عطشى لسماع صوت نصح مهني من مؤسساتنا المتخصصة، كغرف التجارة والصناعة والأعمال والبنوك. فالواجب والصالح العام والخاص، يقضيان المحافظة على البوصلة الوطنية، والسفينة والمجداف.
الجميع يدرك اننا نعمل بمحيط متلاطم يوجب النصح لا الصراخ ويوجب على المسؤول الشجاعة والتواصل والحكمة في «تسويق، وتسويغ قراره» متى أُخِذ عن رَوِيَّة؛ فالقرار كالمُنْتَجْ في المصنع، يتطلب تسويقا، حتى وإن كان مُنْتَجاً مميَّزاً.
كما ارى في السياسة الضريبية القائمة ووعائها، حاجة للمراجعة والتسويغ، لتعديل وضع «الازدواجية في نمو الاقتصاد» (قطاعات ومناطق جغرافية واسعة فقيرة وأخرى رقيقة غنية) لتصبح الحصيلة والعبء الضريبي، منسجماً مع من يحقق دخلا عاليا (ضريبة الدخل على الشركات) ستلقى مقاومة.
إن ما يجذب الاستثمار ليس فقط المردود بل ايضا، التفهّم الوطنيّ من المواطن، واليُسْرَ في الادارة، والعدالة، والأمان.