تزامنت التسريبات حول نيّة رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو إقالة غالانت من منصبه، وتعيين خصمه التاريخي النائب غدعون ساعر وزيراً للأمن، مع مبادرة المجلس الوزاري المصغّر (الكابنيت) لإضافة "استعادة النازحين لمستوطناتهم” لأهداف الحرب، وهذا ليس صدفة، فالهدف الحقيقي سياسي داخلي، والهدف المعلن عسكري.
نتنياهو، الذي حاول إقالة غالانت من وزارة الأمن، في مارس/آذار 2023، على خلفية موقفه المستقل المعارض للتغييرات الجذرية في النظام السياسي في إسرائيل، اضطر، آنذاك، للتراجع أمام ضغط الشارع وتظاهر مئات آلاف الإسرائيليين.
أعاد نتنياهو غالانت بعد يومين لمنصبه الوزاري، لكن الخصومة استمرت، لا سيّما أن نتنياهو يخشى القادة المستقلين برأيهم من حوله، وبعد اندلاع الحرب الحالية تفاقمت الخلافات بينهما، وفي جوهرها تأييد غالانت، منذ شهور، لإنهائها وإتمام صفقة، التقاط الأنفاس وترتيب الأوراق معلبنان دون حرب، فيما يريدها نتنياهو حرباً طويلة تبعده عن السقوط من التاريخ، ومن الحكم، وربما تقرّبه من احتلال القطاع، أو قسم منه، لعدة عوامل.
الآن، وفي ظل تصاعد الانتقادات الإسرائيلية الموجهة لحكومة نتنياهو على إهمال الشمال وبقاء الجليل الأعلى خالياً و”منطقة عازلة”، اختار الأخير ذلك كتوقيت مناسب للقيام بإضافة "استعادة النازحين لأهداف الحرب”، مستخدماً الإضافة "قنبلة دخانية” لحجب حقيقة دوافع نيّته استبدال غالانت، والدفع نحو حملة عسكرية يعتبرها مراقبون كثر، وبحق، تحرشاً جدياً من شأنه أن يؤدي لحرب شاملة.
بخلاف تسريبات أبواق نتنياهو بأنه معنيّ بمعركة مع "حزب الله” لكن غالانت يحول دونها، فإنه يتجه للقيام بعزل غالانت خلال أيام، وربما ساعات، تحرّكه حساباتٌ وأهداف غير معلنة كافتها داخلية، فئوية، وشخصية.
مآرب غير معلنة
وفي الواقع، يتطلع نتنياهو إلى ضم ساعر لحكومته أولاً للانتقام من غالانت و”سدّ الحساب” معه، تأمين حياتها حتى نهاية ولايتها، نهاية 2026، ضمان تمرير قانون التجنيد الذي يعفي حلفاءه الحريديم (اليهود الأورثوذوكس) من الخدمة العسكرية رغم الحرب، وهذا ما يعارضه غالانت وبعض نواب "الليكود”، ضمان المصادقة على الميزانية العامة للعام 2025، رسالة واضحة لبقايا المعارضة الداخلية في "الليكود”. كذلك هو استنساخ لوسيلة خلاقة يستخدمها نتنياهو مع خصومه، وهي اصطيادهم بـ "مصيدة عسل”، فساعر غادر "الليكود” بعد خلاف شخصي وسياسي مع نتنياهو، قبل سنوات، تحرّكه شهوة البقاء في الصورة، وفي القيادة، يرغب بالعودة لبيته السياسي لأن أياً من الأحزاب اليوم غير معنية بها، واستطلاعات الرأي لا تبتسم له، بيد أن دوسه على كل تصريحاته المعادية (بصوته وصورته) لنتنياهو تفقده المصداقية بعيون الإسرائيليين، وتظهره نموذجاً فظّاً للانتهازية البشعة، ولذا فإن نتنياهو من هذه الناحية ينتقم منهم أيضاً، وليس فقط يتكأ عليه لتوسيع حكومته.
ساعر، الذي يحاول تبرير هذا التناقض، يقول من خلال مقرّبيه إن حاجة الأمن والمصالح العليا تقتضي انضمامه لصناعة القرار وترشيدها، لكنه يصطدم بعقبة أخيرة ربما تُفشِل كل المبادرة تتمثّل برفض سارة نتنياهو لها فهي تتهمه بالخيانة، وتعتقد أنه سيعاود خيانة زوجها من جديد. وهذا ما يعبّر عنه رسم كاريكاتير في صحيفة "يديعوت أحرونوت”، اليوم، يبدو فيه ساعر يرتدي بدلة الوزير وبيده حقيبة، ويتجه لدخول مقر وزارة الأمن في تل أبيب، فيما تمثل في واجهة العمارة سارة نتنياهو وهي تقف كحارسة، وإلى جانبها إشارة قف!
هذه كارثة
من جهته، يحافظ غالانت على الصمت حيال هذه الدراما السياسية في إسرائيل، محاولة إقالته، ويكتفي بالقول، عبر مقرّبين منه، إنه باق في حزب "الليكود”، فيما يبدي جيش الاحتلال حالة قلق شديد من الفكرة في ذروة الحرب، أما رئيس المعارضة يائير لبيدفاعتبراستبدال وزير أمين في ذروة حرب كارثة، علاوة على منح نتنياهو المزيد من الوقت للمزيد من التخريب، ومع ذلك فهذا لن يقوّي الحكومة، بالعكس فهي ستسقط”.
ويذهب النائب المعارض، الوزير المستقيل، والقائد الأسبق للجيش غادي آيزنكوت للقول للإذاعة العبرية، اليوم: "أنا قلق من التوجهات الساخرة التي لا ترى مصالح إسرائيل كما يفعل نتنياهو، الذي يبحث عن غاياته الشخصية حتى على حساب المساس بضرب مناعة الإسرائيليين، وهو يبحث عن المصادقة على قانون تجنيد يعفي الحريديم شركاءه في الائتلاف، وهو قانون خطير كونه تجاهل حاجة الجيش للجنود في فترة حرب، ويضرب مناعة الإسرائيليين لأنه يمسّ بتكافلهم”.
وقال آيزنكوت إن امتحان كل حكومة هو خدمة مصالح إسرائيل وأهداف الحرب، التي لم يتحقق أيّ منها بسبب تحرّك نتنياهو بدوافع فئوية، ومواصلة التغرير والمناورة والهرب من اتخاذ قرارات مستحقة، وفي المقابل اتخاذ قرارات ملوّثة غايتها البقاء في الحكم، وهذا ما دفعنا لمغادرة حكومة الوحدة.
الرهان على وجود إسرائيل
اعتبر آيزنكوت أنإقالة غالانتالآن رهانٌ خطير على وجود الدولة، معلّلاً رؤيته هذه بالقول إن وزير الأمن وظيفته خطيرة وحساسة جداً، وساعر رجل طيب، لكنه بلا تجربة، وفي الوضع الراهن لن ينجح بممارسة صلاحياته، ولا يملك وقتاً لدراسة طبيعة هذا الدور. كما يؤكد أن هذه الخطوة تنمّ عن خلط نتنياهو للحسابات، وهو ينتقل من مدير سيء للأزمات للعبث بمستقبل إسرائيل.
وتابع: "أنا قلق جداً، وأنا أعرف طبيعة المداولات داخل الكابنيت، حيث يسيطر نتنياهو على كل شيء فيه. ساعر غير مؤهّل لهذا المنصب الآن، وتعيينه فيه مراهنة على مستقبل إسرائيل. لديّ انتقادات على غالانت، خاصة طريقة إدارة الحرب، ولكن استبداله الآن في زحمة الحرب عملٌ غير مسؤول، ويصبّ الماء على إستراتيجية إيران المستندة لفكرة حرب طويلة تستنزف إسرائيل وتضعفهاعلاوة على أن هذا حكمٌ بالموت على المخطوفين”.
وهذا ما تؤكد عليه عائلات المخطوفين، التي اعتبرت، في بيانها أمس، أن تعيين ساعر، المعروف برفضه للصفقة ولوقف الحرب، وزيراً للأمن حكم ٌبالإعدام على المخطوفين، ومن جهة أخرى؛ تؤكد واشنطن أنها قلقة ومستغربة، وتعتبر إقالة غالانت ضرباً من الجنون.
انقسام الإسرائيليين
لم يكن من الممكن أن تتدخل سارة نتنياهو في قرارات حكومية خطيرة، وأن يتم استبدال غالانت الآن، استبدال "الخيول في ذروة المرتفع”، لولا إن الإسرائيليين منقسمون على قضايا كثيرة وجوهرية لم تطفئها حربٌ مكلفة وخطيرة، وبسبب تحوّل نتنياهو لقديس لدى أنصاره، خاصة اليهود الشرقيين ممن بات دعمهم الأعمى له بمثابة "دين” جديد لدى الإسرائيليين. وينعكس هذا الانقسام في الخطاب السياسي العام، فمقابل موقف آيزنكوت، يقول الوزير شيكلي إن غالانت لم يعرف كيف يتحدى قيادة الجيش وتحفيزهم ودفعهم لتدمير "حماس”، ولذا وجبت إقالته.
كذلك في مرايا الإعلام العبري، حيث يجري نقاشٌ بين مؤيد ومعارض للإقالة المتوقعة، فيقول المحلل السياسي في صحيفة "هآرتس” يوسي فرطر إنه حتى الآن كان ساعر يسير مع صورة الإنسان صاحب الكلمة، ورَفَضَ في الماضي إغراءات نتنياهو، والآن ربما ينضم لـ "قائد فاسد، خطير، وبدون ضوابط، وساخر يفّضل مصلحته على مصالح الدولة” (كما كتب ساعر بنفسه ليلة إقالة غالانت في مارس 2023).
كما يقول فرطر إن منصب وزير الأمن إغراءٌ كبير، ولكن أين اختفت المبادئ والاستقامة؟
وعن ذلك يضيف: "هذه الحكومة ينبغي إسقاطها لا إنقاذها… هكذا قال ساعر عدة مرات في ما مضى.. والآن هو المنقذ”.
ويتبعه المحلل العسكري عاموس هارئيل، الذي يرى أن التردد حول طبيعة العملية في لبنان حقيقي، لكن مبادرة نتنياهو الآن وضغطه على غالانت للتحرك ضد لبنان (بعدما رفض توصيته بضربة استباقية في بداية الحرب) تعني مغامرة خطيرة، لافتاً إلى أن اعتبارات نتنياهو الحقيقية: التخلص من غالانت للحفاظ على استقرار ائتلافه الحاكم.. وإذا احتاج ذلك استبدال وزير أمن بوزير آخر بدون تجربة في ذروة حرب مع مخاطر اتساعها والتنازل عن المخطوفين فكل هذا سيكون. منوهاً أن واشنطن مصدومة، وحذرت نتنياهو من نتائج خطيرة للخطوة، ويزداد استغرابهم عندما يسمعون اعتباراً إضافياً: صفقة بين الليكود وبين شاس ويهدوت هتوراة تؤمّن استمرار إعفاء معظم الحريديم من الخدمة العسكرية.
كل الطرق تؤدي لتسوية
ويرى محلل الشؤون الاستخباراتية في "يديعوت أحرونوت” رونين بيرغمان أن قائد الجيش هليفي قال لضباط كبار إنه ملتزمٌ بإعادة النازحين، وهو يعتقد أن ذلك ممكنٌ بطريقتين: صفقة تستعيد المخطوفين، ومفاوضات مع "حزب الله”، أو بدون صفقة؛ حملة عسكرية تعقبها تسوية سياسية، لكن الحملة العسكرية من شأنها أن تؤدي لتصعيد.
ويؤكد بيرغمان أن الحملة العسكرية على جنوب لبنان لن تؤمّن عودة النازحين، وأنه، في كل الأحوال، لا بدّ من اتفاق سياسي مع لبنان و”حزب الله”. وهذا ما يؤكدهعاموس هوكشتاين،المبعوث الأمريكي للمنطقة.
ويرى زميله المحلل السياسي بن درور يميني أن نيّة رئيس حكومة إبعاد غالانت، آخر السياسيين الذين يحظون بمقدار من ثقة الجمهور وفي العالم، هو جنون وهدية لمحور الشرّ.
إذا كان نتنياهو يعتقد أن هذا الوقت لاستبدال وزير أمن فليتفضل بالاستقالة بنفسه، أو يطرح نفسه للانتخابات مجدداً”.
ويرى المحرر في صحيفة "معاريف”، المعلق السياسي بن كاسبيت، أن حكومة الكوارث تحصل على وجبة أوكسجين اصطناعية من خلال انضمام ساعر لها. موضحاً أن فكرة قيام نتنياهو باستبدال وزير أمن لحظة قبل انزلاق الجبهة الشمالية لحرب شاملة هي فكرة لا يمكن استيعابها.
نافذة فرص لتغيير الواقع
في المقابل؛ ينقل المراسل العسكري في صحيفة "يديعوت أحرونوت” عن قادة كبار في الجيش قولهم: لن تعود فرصة أفضل لعملية عسكرية في الشمال، جنوب لبنان، وشمال البلاد فارغ، وعشية انتخابات أمريكية لا احتمال أن تتركنا أمريكا وشأننا.. كذلك نحن خطوة قبل الشتاء، ونحن غير معنيين بالتورط بوحل لبنان: "إذا لم نفعلها الآن لن ننجح مستقبلاً باستعادة السكان- يقول مصدر”.
وترى المعلقة السياسية اليمينية نافا درومي معللة دعمها للخطوة الوشيكة إن "غالانت لا يقود لانتصار، ولا يعرف كيف يدير حرباً، وأحياناً يبدو أنه غير راغب بالدخول لها بكامل القوة”.-(وكالات)