بعد أن أصبح واضحاً ما تسعى إليه الولايات المتحدة من دور رئيس في إطار تصفية المشروع الوطني التحرري الفلسطيني، وتمتين سيطرتها على المنطقة في مواجهة تنامي دور دول وتجمعات دولية ناشئة. فإن السياسة الأمريكية تتجه اليوم نحو إعادة ترتيب المشهد السياسي الفلسطيني والإسرائيلي بشكل يخدم تحالفاتها ومصالحها، ويضمن "استقراراً" نسبياً بالمفهوم الأمريكي والذي لا يختلف عليه الحزبان الديمقراطي والجمهوري سوى في منهج العمل أحياناً، وفق محددات العلاقات الثقافية والدينية والعقائدية والأمنية مع دولة الاحتلال، ودورها ومكانتها بالنسبة للمشروع الاستعماري العالمي.
ولذلك يمكن القول إن هناك توجهاً أمريكياً يسعى بالفعل لحصر الدولة الفلسطينية دون سيادة التي تتحدث عنها الإدارة الأمريكية في ما سيتبقى من أراض ممسوحة في قطاع غزة بعد القضاء على حماس أو إضعافها بشكل كبير، وإنهاء مهمة تدميرها الجارية الآن حتى النهاية. هذا السيناريو يدعم فكرة إبعاد "الملف الفلسطيني" عن أي تهديد مستقبلي "لأمن إسرائيل" من جهة، ويهيء الأرضية لظهور حكومة إسرائيلية جديدة تكون أكثر توافقاً مع الرؤية الأمريكية "للسلام الإقليمي"، في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد.
بالنسبة للضفة الغربية، يبدو أن هناك مخططاً لتفتيت مناطقها إلى كانتونات معزولة، ما يضمن عدم وجود كيان فلسطيني موحد قادر على تهديد إسرائيل وتنفيذ التنمية المستدامة لشعبنا. كيان بعيد عن القواعد الدولية والحقوق المشروعة لشعبنا، بعد ما يتمكن الاحتلال من القضاء على ما يقدر عليه من جيوب وخلايا المقاومة فيها وقتل ثقافة المقاومة، وسلخها عن حاضنتها الشعبية، وكأنها هي المسوؤلة عن دمار شعبنا، وذلك استكمالاً لما يجري الآن في مخيمات ومدن الشمال في إطار مشروع الحركة الصهيونية الواسع والواضح بالخرائط الإسرائيلية المعلنة.
وفق هذه الرؤية فإن القدس ستكون بالطبع خارج أي تفاوض مفترض فلسطيني إسرائيلي حقيقي، إن وجدَ لاحقاً هذا التفاوض الذي لا اعتقد بحصوله ضمن المعطيات القائمة، وهو ما ينسجم مع السياسة الأمريكية والإسرائيلية الحالية التي تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وليهودية بعض الكتل الاستيطانية الكبيرة، إضافة إلى الواقع القائم في غور الأردن ومدينة الخليل بعد أن تم تهويدهما سياسياً واقتصادياً وأمنياً وديموغرافياً.
في هذا السياق، قد تكون السلطة الفلسطينية "المتجددة"، وفق المخطط والمتطلبات الأمريكية المعلنة مراراً لها دور إجباري من هذا المخطط بالضفة الغربية بعد استكمال إنهاك مكونات السلطة الوطنية التي نشأت وفق اتفاقيات أوسلو التي أعدمتها دولة الاحتلال، واعتبرتها في حكم المنتهي، كما وموازناتها المالية بالقرصنة من جانب الاحتلال والاشتراطات الأمريكية الأوروبية من أجل دفع المساعدات، إضافة إلى عدم الإيفاء العربي مالياً وسياسياً المفترض وفق الضغوطات الأمريكية، والتخلص من الإرث التاريخي الكفاحي لمنظمة التحرير والحركة الوطنية وفي المقدمة منها عمودها الفقري حركة فتح التي فقدت العديد من مكوناتها ودورها ومكانتها لأسباب غير خافية على أحد اليوم، خاصة إذا تم إضعاف حركة حماس واستبدالها بحزب إسلامي على غرار ما جرى في تركيا، واستمرار تنفيذ مراحل خطة الحسم المبكر وإشاعة عقلية القبول بالأمر الواقع دون العمل والكفاح لتغييره، وهو الأمر الذي بدأ يظهر عند قلة من النخب الثقافية والسياسية، وليعذروني على هذا التوصيف.
الولايات المتحدة برفضها الاستراتيجي التاريخي لحق تقرير المصير لشعبنا الفلسطيني قد تسعى لإعادة تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية أو دعم قيادة "جديدة أو متجددة" يكون لها القول الفصل في تشكيلها بتأييد من الاتحاد الأوروبي، وتحديداً المانحين منهم، تعيد إنتاج هذا المخطط ضمن إطار "حكم ذاتي مناطقي " على شكل كانتونات معزولة بفعل المستوطنات وتوسعها والطرق الالتفافية، لكن دون أي سيادة حقيقية على الأرض والأمن والحدود بعيداً عن شكل الدولة ذات السيادة ومفهومها الطبيعي وفق القانون الدولي، تقترب من مفهوم الدولة الذي طرحه ترامب في إطار رؤيته للسلام في "صفقة القرن" التي تم رفضها من القيادة الفلسطينية في حينه.
هذه الرؤية تنسجم الآن مع لعبة المفاوضات حول صفقة وقف العدوان وتبادل الأسرى التي ترسم فصولها الإدارة الأمريكية بالشراكة مع نتنياهو، وفق قواعد كيسنجر التفاوضية التي أشرت لها في مقال سابق، للمماطلة والتسويف "بنعم" و "لا" لما جاء في قرار مجلس الأمن بخصوصها والتي وافقت عليه حركة حماس، ويتم التراجع عنه اليوم أمريكيا وإسرائيليا، رغم كونه انتاجهم وإخراجهم بطرح صيغ تفاوضية جديدة قد تكون غير مقبولة للجانب الفلسطيني المفاوض حتى يتم تحميل مسوؤلية الفشل له، ويُمكن الاحتلال من الوقت الأطول لتنفيذ ما تبقى من أهداف له.
ما يجري اليوم يتطلب مراقبة دقيقة لتطورات الأوضاع على الأرض، خاصة فيما يتعلق بالصراعات في إطار الأزمات الخانقة في الحكومة والشارع الإسرائيلي حول كل القضايا سوى قضية الأحتلال، والتحركات الأمريكية تجاه ملف غزة والضفة القائمة على رفض أسس إقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة الكاملة، رغم الانشغال الكامل اليوم بمجريات المعركة الانتخابية للرئاسة الأمريكية ووجود بؤر توتر أخرى حول العالم وتحديداً في أوروبا وبحر الصين.
لذلك فإن المشروع السياسي المرتبط بمستقبل غزّة، يصبح ممكناً الحديث عنه وعن هدنة وعن دور للسلطة الوطنيّة فقط بعد الانتخابات الأمريكية، رغم سعي إدارة بايدن- هاريس لمحاولة الإيحاء بوجود تقدم يساعد حملاتهم الانتخابية أمام الجاليات العربية وغيرها، وأمام الجناح التقدمي في حزبهم، في وقت تبدو أفكار ترامب والجمهوريين واضحة من جانب آخر بالادعاء أن هاريس تسعى لدمار إسرائيل وتقويض مبادىء الولايات المتحدة، وهو أمر يندرج بالتسابق بينهم على من منهم يقدم الخدمات الأكبر لدولة الاحتلال والأبرتهايد.
ذلك المشروع السياسي يحتاج إلى دور قيادي أميركي يعتمد على رؤية الحزب الفائز رغم غياب الفوارق الجوهرية بينهما، وتعاون عربي وسلطة وطنية "مختلفة أو متجددة"، وفق المفهوم الأمريكي الذي أشرت له، وحكومة من نوع آخر في إسرائيل تُفكر في مستقبل المنطقة وليس في المستقبل السياسي لشخص لا مستقبل له أسمه "بيبي" نتنياهو.
أمام هذه التوقعات السياسية، فان السؤال المتكرر اليوم يتعلق بكيفية مواجهة هذا المخطط الجاري والمتسارع بعد أن قطع أشواطاً ممتدة على الأرض، أمام غياب الفعل المؤثر لوقف حرب الإبادة، والاكتفاء بالمراقبة دون انخراط موحد من الجميع الفلسطيني، في مواجهة ما يجري من مخاطر ليس من خلال حرب الإبادة في غزة، وامتداداتها في الضفة الفلسطينية فقط، لكن من خلال الضم لأجزاء من شمال وجنوب غزة وعودة الاستيطان إلى أطرافها لتُبقي ذلك الكيان من شكل الدولة محاصراً. إن عدم الوصول إلى شكل الوحدة الوطنية المطلوبة في إطار منظمة التحرير، وغياب رؤية وبرنامج واضح ومتكامل يبتعد عن ردود الأفعال فقط أو الانجرار خلف سراب أمريكي يعتمد تجاهل الحقوق السياسية الوطنية لشعبنا من خلال إدارة الصراع والإبقاء على الاحتلال بأشكال مختلفة، ونقاش مشاريع اقتصادية أو أمنية، ودون إجراء الإصلاحات الوطنية التي أصبحت مطلباً شعبياً فلسطينياً لتكون درعاً حامياً أمام كل الضغوطات الهادفة إلى فرض قيادة متجددة دولياً لربما لن تكون وطنية، كل هذا سيضعف من الموقف الفلسطيني المبني على قدرة شعبنا على الصمود في مواجهات التحديات بإمكانيات غير مفتوحة الخيارات.
أنا لا أدعي بأنني امتلك الوصفة السحرية لإحباط تلك المشاريع والمضي قدماً نحو تحقيق أهداف مرحلة التحرر الوطني، ولكن هناك ثوابت وأسس تتطلبها معركة الحرية والاستقلال الوطني على غرار ثقافة حركات التحرر العالمية، وفي حالتنا على قاعدة وحدة الأرض والشعب والقضية وثقافة المقاومة المختلفة الأشكال التي تزيد من تكلفة الاحتلال بشكل فعلي ومسؤول وفق الظروف المتاحة، والتي كان يتوجب حماية معادلتها منذ البدايات بعد الانقلاب الأسود الذي أضر كثيراً بشعبنا ومصالحه الوطنية ومكانته أمام العالم، والمضي لاحقاً في توسعة أسس الوحدة الوطنية بين كافة مكونات شعبنا وخاصة الشباب دون اقتصار ذلك على فصائل العمل الوطني ليزداد دور ومكانة منظمة التحرير محلياً وإقليمياً ودولياً، خاصة في إطار العلاقات مع شعوب العالم التي عادت للتظاهر مع بدء العام الدراسي حول العالم من جهة، والبناء على انكسار عقلية الردع والإرهاب الإسرائيلي وفق تطور الأحداث وغضب الشعوب العربية الذي تمثل بإقدام الشهيد ماهر الجازي على ما قام به بجرأة وبسالة ثأراً لما يجري لأشقائه الفلسطينيين، ولما يجري أيضاً من محاولات أيديولوجية صهيونية حول مكانة الوطن البديل بتعريض استقرار الأردن وانتهاك سيادة دول عربية أخرى.
.............
المشروع السياسي المرتبط بمستقبل غزّة، يصبح ممكناً الحديث عنه وعن هدنة وعن دور للسلطة الوطنيّة فقط بعد الانتخابات الأمريكية، رغم سعي إدارة بايدن- هاريس لمحاولة الإيحاء بوجود تقدم يساعد حملاتهم الانتخابية أمام الجاليات العربية وغيرها.