دخلت الرصاصة التي أُطلقت على المرشح الجمهوري دونالد ترمب خلال حملته الانتخابية في بنسلفانيا، وأصابته في أذنه، التاريخ من أوسع أبوابه؛ لأنها أطاحت الرئيس الحالي جو بايدن، وقربت نائبته كامالا هاريس من أن تكون مرشحة الحزب الديمقراطي، وقد تكون مرشحة صعبة وقوية، وهي تحظى بدعم قوي من شخصيات مؤثرة في واشنطن.
ولعل عدم حضورها خطاب رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو في الكونغرس الأميركي، الملقب «الكابيتول»، أضاف إليها بعض النقاط المهمة والداعمة لها، رغم أن ما شاهدته وما استمعت إليه في الكونغرس كان فضيحة كبرى للسياسة الأميركية وللحزبين؛ لتصفيقهما وترحيبهما بنتنياهو. ومن المرجح أن تكون المواجهة الرئاسية المقبلة في الولايات المتحدة مبارزة قوية ومصارعة حرة بين الحزبين، شبيهة بالتصفيق الحار لنتنياهو من أعضاء الحزبين الذين تسابقوا على قطع كلمته كل دقيقة بـ53 تصفيقة في 50 دقيقة!
تصفيق تاريخي لمجرم حرب، فهل تكون هاريس هي «المرأة الحديدية» الثانية بعد مارغريت ثاتشر رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، وتفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية في حال نالت ترشيح حزبها بشكل رسمي، وهو متوقع نوعاً ما؛ لأنها تملك صفات تجعلها مختلفة عن رئيسها السابق بايدن في بعض الملفات السياسية والاقتصادية؟
وستظهر مستجدات في مقبل الأيام من جانب هاريس ومن جانب الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترمب كذلك. فهو ثاني رئيس سابق بعد ثيودور روزفلت يسعى إلى العودة للبيت الأبيض، فرصاصة بنسلفانيا التاريخية لم تسقطه؛ بل كانت سبباً في زيادة شعبيته وتصدره استطلاعات الرأي حتى الآن، وسرّعت باستبعاد وتنحي الرئيس الحالي جو بايدن وإدخاله في غرفة الإنعاش السريري، كأننا نتابع فيلماً من أفلام هوليوود المثيرة والغريبة، ووحّدت الحزب الجمهوري تحت راية ترمب من جديد، وخلقت الفوضى في الحزب الديمقراطي.
ومن بين المفارقات أن الجمهوريين يدخلون الجولة النهائية متّحدين على نحو غير متوقع، في حين لا يزال بعض الديمقراطيين من اليسار مترددين بشأن هاريس بوصفها حاملة لواء الحزب في الانتخابات المقبلة. وأيضاً من المفارقات أن تكون هناك حشود شعبوية تطالب بمقاطعة الخطاب، وتخرج إلى الشوارع في واشنطن حاملة لافتات استهجان ومطلقة صيحات تطالب نتنياهو بالرحيل وبالمحاكمة، وبوقف الحرب في غزة.
استقبال الساسة واستماعهم خطاباً «استعراضياً» سقطة جديدة للديمقراطية الأميركية؛ فهذا الرجل مدان عالمياً، وتستعد «المحكمة الجنائية» لإصدار مذكرة توقيف بحقه، وتطارده المظاهرات في كل مكان، وتطالب بمحاسبته أينما حل وارتحل، وبهذا يكون التصفيق في الكونغرس والترحيب السياسي به علامة سيسجّلها التاريخ عن أميركا ووجهها الحقيقي.
فبهذا الموقف قد أضرّت أميركا بالديمقراطية أكثر من الديكتاتوريات المعادية لها، وأصبح العالم يعدّها نموذجاً كاذباً للديمقراطية والإنسانية والحريات.
ولا أنسى أيضاً انسحاب الرئيس الأميركي الديمقراطي جو بايدن من السباق الانتخابي بتغريدة على منصة «إكس»، وليس عبر بيان معتاد من البيت الأبيض، وهذا سقطة أخرى لهذه الديمقراطية... والكوارث الأميركية تتوالي والسقطات كذلك، وهذا ما أكده الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي قال، بعد إعلان انسحاب بايدن بقليل: «سوف نبحر في المجهول».
رصاصة بنسلفانيا غيرت أميركا بالفعل، بانسحاب بايدن وظهور امرأة تنافس على مقعد الرئيس في دولة كبرى، وبتثبيت الحزب الجمهوري ترمب، وتصفيق الكونغرس للمجرم... وكل ما حدث خلال الفترة الماضية، يجعل الأقدار تصب في خانة رؤية عالم جديد، بعد توجيه النقد القوي في أميركا إلى إسرائيل ورئيس وزرائها على الصعيدين الشعبوي والنخبوي.
فالمواجهة الانتخابية مختلفة هذه المرة، ولا أعتقد أن فرصة نجاح أي من المرشحَين كبيرة، قبل المناظرة الثانية، فالرصاصة التاريخية خلطت ملفات كثيرة، والنزاعات الدولية والإقليمية ستتصدر المشهد في مقبل الأيام، خصوصاً أن العلاقة بين «وادي السيليكون» ودونالد ترمب تكون مشحونة بالتوتر أحياناً؛ لأنه معقل للديمقراطيين، ولأن فشل السياسة الخارجية الأميركية في عهد بايدن في الشرق الأوسط سيكون لمصلحة ترمب... وكل ذلك يمهد لرصاصة القنّاص الأميركي، ويعجّل بإيجاد توافق عالمي كي يعود الأمن والاستقرار للعالم أجمع، بدلاً من التصفيق الحار الذي لقيه نتنياهو في «الكابيتول» والكم الهائل من الأكاذيب التي تحدث عنها، وكأن الحضور مغيبون عن الحقائق والواقع.
فالكونغرس الأميركي الذي يُفترض أن يكون رمزاً لأرقى الممارسات الديمقراطية في العالم، يتحوّل إلى مسرحية صهيونية وكذب ونفاق وتشويه للحقائق، في دولة وُجهت إليها السهام والانتقادات القوية من كل مكان، لتخرج الولايات المتحدة عن أن تكون الطرف الأكثر ضماناً للسلام والعدالة بعد أن فقدت مكانها، وأصبحت سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية والصين وغيرها الأكثر ثقة في استضافة الوساطات.
وما لم يقع شيء مفاجئ آخر في الأيام المقبلة، فمن المرجح أن تكون المواجهة الرئاسية المقبلة في الولايات المتحدة مبارزة صعبة بين الرئيس السابق دونالد ترمب ونائبة الرئيس الحالي كامالا هاريس في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. فهل تكون الرصاصة التي غيرت أميركا بشكل ملحوظ سبباً أيضاً في تغيير سياسي آتٍ في العالم والشرق الأوسط؟