"بالعافية (بشق الأنفس) دبّرت لهم عبوتين صغيرتين من البسكويت"، بهذه الكلمات اختصر الفلسطيني حسونة سكافي رحلة البحث المضنية عن أي شيء يصلح للأكل لعائلته في مدينة غزة الخاضعة لعزلة خانقة يفرضها جيش الاحتلال الإسرائيلي، ويمنع عنها كل سبل الحياة.
وبالنسبة لحسونة ولمئات الآلاف من سكان مدينة غزة والنازحين إليها من مناطق شمال القطاع، فإن توفير أي نوع من الطعام بات مهمة شبه مستحيلة، جرّاء عزل جيش الاحتلال المدينة عن باقي مدن القطاع، والاستهداف المكثف لكل سبل الحياة فيها من أسواق ومحال تجارية وآبار مياه.
ومنذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تعرضت مدينة غزة لأعنف الغارات الجوية الإسرائيلية والقصف برا وبحرا، قبل توغل جيش الاحتلال بدباباته وآلياته في مخيماتها وأحيائها، وإجبار سكانها على النزوح عن منازلهم داخل المدينة أو نحو مدن ومخيمات جنوب قطاع غزة.
البحث عن حياة
لم ينزح حسونة، وفضّل البقاء في منزله بحي الشجاعية شرقي مدينة غزة، حتى وجد نفسه مضطرا إلى المغادرة بأسرته على وقع مجزرة مروعة ارتكبها جيش الاحتلال بغارات جوية دمرت مربعا سكنيا بأكمله، قبل بضعة أيام. ويقول للجزيرة نت، "أخرجتهم بأعجوبة، وقضينا يومين أمام باب مدرسة تؤوي آلاف النازحين من مدينة غزة وشمالها".
حسونة متزوج ولديه "حور" طفلة رضيعة (6 أشهر)، يقيم مع والدته وشقيقيه ونازحين آخرين لجؤوا إلى منزلهم في حي الشجاعية، ويوضح، "كنا 15 شخصا وبيننا 6 أطفال و5 نساء، وعمي المعاق، وخرجنا من الشجاعية بأعجوبة تحت القصف والغارات الجوية، ومكثنا وكأننا في الشارع على باب المدرسة، حتى تدبرنا أمورنا في منزل لأصدقاء في حي الصبرة بالمدينة".
وتقدر بلدية غزة تعداد سكان المدينة الأصليين والنازحين إليها من مناطق الشمال، من 400 إلى 500 ألف نسمة، يعيشون واقعا إنسانيا ومعيشيا منهارا، حيث لا تتوفر أبسط مقومات الحياة، وحتى الحركة في الشوارع محفوفة بمخاطر كثيرة.
ويضيف "الشوارع مدمرة، والقصف الجوي والبري والبحري لا يتوقف عن المدينة التي تنعدم فيها كل مظاهر الحياة، حيث طال الدمار كل شيء، الأسواق والمحال التجارية، وآبار المياه".
والحصول على كيلوغرام من الدقيق برأيه، "يعادل الحياة"، في معرض رده عن سؤال حول كيفية تدبر عائلته احتياجاتها اليومية، وقال "أمس كانت وجبة الأسرة -طوال اليوم- القليل من البسكويت، حصلت عليه بعد عناء شديد، ولو توفرت اللحوم فلا يوجد غاز طهي، وحتى الحطب مفقود في غزة".
ولم يتذوق حسونة وأسرته طعاما معدا على النار منذ الأسبوع الأول للحرب، وظل اعتمادهم اليومي على الأغذية المعلبة حتى نفدت، وباتت حياتهم متوقفة على ما يتوفر من أي طعام يسد الجوع ويبقيهم على قيد الحياة.
سياسة تعطيش
ومن أجل توفير "غالونين" بسعة 20 لترا من المياه للشرب والاستخدامات الأخرى، يضطر أشقاء حسونة للسير مشيا على الأقدام لمسافة كيلومترين، ويقول إن هذه المهمة الشاقة قد تتكرر أكثر من مرة باليوم الواحد، مشيرا إلى أنها "مياه مالحة ونضطر لشربها في ظل شح المياه في المدينة".
وساعة بعد ساعة، يقول حسونة إن قلقه يزداد على طفلته الرضيعة "حور" التي تعاني من الإسهال الشديد، ولا يتوفر لها الحليب لأن الصيدليات والمحال التجارية مغلقة، فيما تعاني زوجته المرضعة من سوء التغذية.
وبكثير من الأسى يكمل "لا أعلم متى تأتي لحظة الانهيار، الضغوط شديدة والموت قد يدهمنا قصفا أو جوعا وعطشا".
وهذه الضغوط التي أشار إليها حسونة، يؤكدها المتحدث باسم بلدية مدينة غزة حسني مهنا، ويقول للجزيرة نت "كل شيء في غزة منهار، والشلل أصاب كل مفاصل الحياة بسبب العدوان والعزلة والحصار".
ولتأجيل لحظة الانهيار التام ليومين إضافيين ستتوقف بعدهما جميع خدمات البلدية، اضطرت هذه المؤسسة إلى استخراج الوقود من سيارات وآليات خرجت عن الخدمة، إثر استهدافها من جيش الاحتلال داخل موقف خاص بها، إضافة إلى كمية استخرجتها من خزانات صغيرة في محطات الصرف الصحي المدمرة، بحسب مهنا.
ومنذ مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي لم يرد للبلدية أي لتر من الوقود، يؤكد مهنا، ويقول إن البلدية اضطرت أخيرا إلى وقف جميع أعمالها لتوفير كمية الوقود القليلة لضمان استمرار عمل آبار المياه.
وتعتمد مدينة غزة على 3 مصادر للمياه، ومع اندلاع الحرب فقدت الخطوط الناقلة للمياه الواردة من إسرائيل وتمثل 40% من الحاجة للمياه، وأوقفتها إسرائيل في إطار سياسة الحصار المطبق.
وتسبب انقطاع الكهرباء في توقف المصدر الثاني للمياه ويمثل 20% من الحاجة عبر محطة التحلية، ولم تبق من المصدر الثالث سوى 3 آبار تعمل بالحد الأدنى من أصل 80 بئرا.
كارثة ومجاعة
وقال حسني مهنا إن جيش الاحتلال دمّر غالبية هذه الآبار، وتوقف عدد منها نتيجة نفاد الوقود، وتعمل حاليا 3 آبار فقط لـ3 ساعات يوميا لضمان وصول المياه لنحو 400 إلى 500 ألف من سكان المدينة والنازحين إليها من مناطق شمال القطاع، لافتا إلى أن هذه المياه "شديدة الملوحة وليس لها بديل آخر".
وتواجه مدينة غزة مخاطر غرق مناطق منخفضة نتيجة تدفق المياه من محطات الصرف الصحي. ووفق المتحدث باسم بلدية المدينة، فإن 7 محطات ضخ لمياه الصرف الصحي متوقفة عن العمل، سواء بفعل الاستهداف المباشر أو لنفاد الوقود، وتسبب ذلك في غرق الشوارع بالصرف الصحي غير المعالج، ما ينذر بكارثة بيئية وصحية وإنسانية.
وأضاف أن تدفق مياه الصرف الصحي في الشوارع يؤثر على الآبار والخزان الجوفي، ويلحق أضرارا خطيرة بالشبكات الناقلة للمياه إلى منازل المواطنين وللنازحين في مراكز الإيواء، إضافة إلى مخاطر توقف خدمات جمع أكوام النفايات المكدسة والمنتشرة في الشوارع التي تهدد الصحة العامة.
وفضلا عن أزمة الوقود، تؤثر الشوارع المدمرة على حركة المتبقي من آليات البلدية التي تكافح من أجل إعادة فتح بعضها أمام فرق الدفاع المدني، لتمكينها من انتشال الشهداء من الشوارع وأزقة الأحياء والمخيمات.
ويقول مهنا إن "الناس في غزة تكافح من أجل البقاء على قيد الحياة، ومخاطر المجاعة محدقة وتلوح بالأفق، حيث لا مياه ولا غذاء، والمساعدات التي وصلت المدينة عبر معبر رفح لم تلامس احتياجات المواطنين ولم تترك أثرها على حياتهم".