من الطبيعي عندما يشتد الخَطب أن يفقد البعض البوصلة، وحرب غزة وردّات الفعل المصاحبة لكثير من العرب أصبحت صاخبة، دون الإطلال على المشكلة من جانب التفكير العقلاني. آلة القتل الإسرائيلية ضخمة، وسلوك الحكومة الإسرائيلية المصغرة جنونيّ وإباديّ نتيجة صدمة الثقة المفرطة بالنفس.
في هذه الأجواء عُقدت قمة الرياض العربية والإسلامية، السبت الماضي، وقد صاحبها صخب وصراخ من البعض، وهم في الغالب «مُنظّرو الكنبة»، وأُلقيت عليها أعباء يعرف من قال بها أنها شبه مستحيلة التنفيذ في «حفلة مزايدة» نعرفها في كل الأزمات، ولم نحصد منها غير الخسران، القمة حضرها عدد من الرؤساء ورؤساء الحكومات العربية والإسلامية، كان لافتاً فيها تأكيد التعايش بين الأطراف العربية والإسلامية، والتي كانت إلى وقت تختلف وجهات نظرها في كثير من الملفات، المسألة الفلسطينية قرّبت بين تلك الأطراف، وهي رسالة إلى الآخرين بأن هناك تعاضداً في هذا الملف من أكثر من مليار من البشر يرفض الصلف الإسرائيلي، وعدَّلت القمة مفردات أرادت إسرائيل أن تثبتها، فالحرب ليست دفاعاً عن النفس، إنما حرب إبادة، كما أشار البيان الختامي.
في الجانب العملي، فإن قرار القمة بتكليف أجهزة الأمانتين «العربية والإسلامية» برصد وتوثيق كل جرائم الاحتلال، هو عمل إيجابي، فالصورة والصوت لجرائم القوات الإسرائيلية ضد النساء والأطفال والمُسنين في غزة، هما ما حرّك بعض الساحات في العالم للخروج في مظاهرات، ورفْض السردية الإسرائيلية التي تزعم أنه «دفاع عن النفس»، ولو تمّ ذلك العمل التوثيقي في أقرب وقت، وبأكثر من لغة عالمية، لتمّ كسب قطاع أوسع من الرأي العام العالمي، لعلّ الإشارة هنا إلى ما قاله وزير الحرب الإسرائيلي مباشرة بعد انتهاء القمة، في مؤتمر صحافي: «ذكر بطفل رضيع أَسَرته حماس وهو لم يبلغ الشهر السادس، ذكّره بأصغر أحفاده»! تلك الصورة التي أُريدَ بها استدراج عواطف الجمهور الإسرائيلي هي صورة يتكرر، كل يوم، أفظع منها للطفل الفلسطيني في غزة، وتوثيق ما يقوم به الجيش الإسرائيلي، وبشكل محترف على مستوى عال من المهنية، هو ما يمكن أن يساعد على كشف التزوير للمجتمع العالمي.
القرار العملي الثاني الذي اتخذته القمة هو تكليف لجنة من وزراء خارجية المملكة العربية السعودية ومصر والأردن وفلسطين وتركيا وقطر وإندونيسيا ونيجيريا «مع أي من الدول التي ترغب في الاشتراك»، للبدء الفوري للتحرك على الساحة العالمية، ذلك أمرٌ له ضرورته القصوى، مع حمل أجندة من ضمنها الملفات الآتية، وهي:
أولاً: على العرب أن يعرفوا أنهم يخوضون معركة من «سفح الجبل»، حيث إن اليهود موجودون في معظم النسيج الأوروبي والأميركي، وفي الأولى تحمل تلك المجتمعات عقدة ذنب لما لقيه اليهود على أيدي أجدادهم من اضطهاد، وفي الولايات المتحدة هم أكثر تأثيراً، فهم مُدرّسون وأساتذة وصحافيون وكُتّاب وإعلاميون وماليون وفلاسفة وعلماء، وتشعر طائفة دينية أميركية بأن من واجبهم الديني وجود يهود في «أرض الميعاد»، تمهيداً لخروج المسيح من جديد، وكثير من السود في أميركا يربطون اضطهادهم من البيض تاريخياً باضطهاد اليهود، عدا تأثيرهم الانتخابي الطاغي، تلك معركة من أسفل السفح تحتاج إلى جهود مضاعفة.
ثانياً: دحر الفكرة التي استقرت، أو كادت، في الإعلام الغربي بأن «الفلسطينيين هم مَن أَفشل، وما زال، التوجه إلى سلام»، تلك فكرة يروّج لها الإسرائيليون، ويبدو أنها شبه مستقرة في ذهن الدبلوماسية والإعلام الغربي، تحتاج لدحضها تأكيد قبول كل الأطراف الفلسطينية حل الدولتين، وتأكيد بالوثائق تلكؤ الطرف الإسرائيلي في هذا الملف. وبذل جهد حقيقي من الفلسطينيين أنفسهم في هذا الملف هو المطلوب.
ثالثاً: الاهتمام على المديين المتوسط والطويل بخلق لوبي حقيقي وفعال في العواصم المؤثرة في القرار العالمي، وقد كان للعرب بعد عام 1973 مثل ذلك التحرك فيما سُمي الإعلام النفطي، شُكّلت لجنة فنية وضعت تحت يديها الموارد، إلا أن العمل المؤسسي العربي مع الأسف قصير النفَس. لوبي عربي في عواصم الدول المؤثرة هو المطلوب، وما تقوم به السفارات هو مشكور، ولكنه رسميّ مقيد ببيروقراطيات، أما المطلوب فهو أولاً تخصيص موارد لمؤسسات تقوم على جهود العرب النابهين، وهم متوفرون في تلك العواصم، لهم خطط ومؤتمرات واتصالات، مستفيدين من الحريات النسبية، سواء في واشنطن أو لندن أو باريس أو برلين أو عواصم أخرى مؤثرة، وهو عمل ليس موسمياً، بل مؤسسي. المؤسف أن عدداً كبيراً من الممثلين العرب في تلك العواصم الرسميين، «وخاصة مندوبي الجامعة العربية» يحصلون على مناصبهم؛ ليس بالكفاءة ولكن بالمحاصصة، كما يتوفر لهم فتات من الميزانيات غير قادرة على مساعدتهم على التحرك الفعال، هنا جناحا اختيار الأكْفاء؛ أي الاستثمار في العقول، وتوفير الميزانيات اللازمة، ضرورة قصوى.
رابعاً: صناعة الرأي العام، لقد استولى على العقل الغربي بشكل عام صورة «الإسرائيلي/ اليهودي» المضطهَد، وسيل من أفلام الحرب العالمية الثانية تشير إلى ذلك الاضطهاد والمحرقة «الهولوكوست»، وقد انتشر في الضمير العالمي فيلم مثل «شندلر لست» وغيره من الأفلام والمسلسلات التي تشير إلى أن اليهودي - المسالم - هو دائماً ضحية، وما زالت تلك الصورة تُستثمر إلى يومنا هذا، بدليل أن مظاهرات سارت في عواصم الغرب ترفع شعار شجب «العداء للسامية» تصدَّرها رجال دولة، وقليل من ذلك الشارع يعرف أن «العرب ساميّون أيضاً»! ذلك التخويف هو الذي جعل وزيرة داخلية بريطانيا «من أصول مهاجرة، وزوجها يهودي» تصف المظاهرة الرافضة للقتل الجماعي في فلسطين بأنها مظاهرة «كراهية»! «تمّت إقالتها»! ما يهم هو التفكير الجدي في «خلق قوة ناعمة» عربية تُظهر فداحة ما وقع على الفلسطينيين من ظلم، ومع توفر وفرة من المنصات الإعلامية، اليوم، والسهولة النسبية في تلك الصناعة، فإن كسب العقول والقلوب بشكل عقلاني وموثّق هو أكثر نجاعة وأعمق تأثيراً.
تلك الملفات التي تعتمد العقلانية وتوظيف العلم الحديث مقروناً بدبلوماسية نشيطة وفهم واضح لتوازن القوى المحلية والدولية، من الأوفى أن توضع موضع النقاش.
آخر الكلام:
الحروب لا تكسب بالصراخ ولا حتى بالمدافع وحدها، تكسب بالعقول أولاً.