اخبار البلد_اكتسبت زيارة جلالة الملك عبدالله الثاني إلى الولايات المتحدة الاسبوع الماضي أهمية خاصة من حيث التوقيت الذي تجري فيه، والملفات الحساسة التي تناولتها أجندة اللقاءات التي عقدها جلالة الملك مع مختلف المسؤولين الامريكيين.
أربعة ملفات رئيسية طرحها الطرفان (الاردني والامريكي) بصورة متبادلة بغية الوصول الى توافقات او فهم مشترك حيالها ومحاولة فك تعقيداتها وطلاسمها في ضوء الضبابية التي تغلف بعض القضايا وتعتري جزءا من العلاقات الدولية، خصوصا ما بين الولايات المتحدة وبعض الدول العربية لا سيما تلك المحسوبة كحليف لها.
أول هذه الملفات وأهمها أردنيا ما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي يبدو أنها تخبو بفعل الاحداث الاقليمية، ما يستدعي تدخلا أردنيا لوضعها على رأس الاولويات باعتبارها مفتاح حل الكثير من التعقيدات الاقليمية والدولية.
وتعيد الجولات الملكية التي يقوم بها جلالة الملك عبدالله الثاني بوصلة الاهتمام الدولي نحو المنطقة باستمرار مع تركيز جلالته الدائم على محورية ومركزية القضية الفلسطينية كبوابة لحل كافة الصراعات في المنطقة.
وقد طغى الحل العادل للقضية الفلسطينية على نشاطات ولقاءات جلالة الملك خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن، ما يؤكد محورية القضية وقدسيتها في تفكير ووجدان الأردن الذي يؤمن بأن الحل العادل المتمثل بحل الدولتين هو السبيل الوحيد لوضع حد لمعاناة الشعب الفلسطيني، وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.
وتشير الدبلوماسية الأردنية دوما إلى أنها لا تبحث عن أدوار بقدر بحثها عن النتائج، وتضع باستمرار خططها السياسية وفق مقاربات لا تخرج عن خط الثوابت الوطنية للدولة الأردنية وان اختلف النهج والمنهج بين وقت وآخر.
وهذا يعكس وعي الأردن وإدراكه لخطورة فشل عملية السلام أو كلفة ذلك المرتفعة على الجميع بدرجات متفاوتة، خصوصا على الفلسطينيين، وهو ما يرتب على الأردن مسؤولية إضافية أمنيا واقتصاديا وسياسيا.
من السهل القول بأن إسرائيل لا تسعى نحو السلام، ومن السهل أن ‹›نلعن›› حظنا العاثر بسبب ‹›انحياز» الإدارات الأمريكية لصالح إسرائيل، لكن كلفة الركون باهظة على الجميع، حيث يؤكد جلالة الملك حاجة إسرائيل والولايات المتحدة للسلام كما هي للعرب، وأن غيابه سيكون مكلفا جدا لتل أبيب ومؤذيا للمصالح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.
«هجوم السلام» الذي تقوم به الدبلوماسية الأردنية وصولا إلى هدف الدولة الفلسطينية المستقلة والحقوق العربية كاملة قد لا يكون ميسر الطرق، ولكنه خطوة أردنية تضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، وتشكل إسهاما عربيا في حفظ السلم والأمن الدوليين.
مرةً أخرى، وضع جلالة الملك أمريكا والعالم أمام مسؤولياتهم إزاء التطورات المقلقة في ملف القضية الفلسطينية، خصوصا أن حل الدولتين يوشك أن يصل الى محطته الأخيرة بعد أن أفشلته اسرائيل بتعنتها وسياساتها الأحادية واستمرارها في خرق القانون الدولي ومواصلة الاستيطان.
على هذا الصعيد، حدد جلالة الملك الأسبوعين المقبلين كموعد لمعرفة إن كانت هناك فرصة كافية ليجلس الزعيمان الإسرائيلي والفلسطيني على الطاولة، معربا عن ثقته بأن تحقيق ذلك يعني أن عام 2012 سوف يكون أكثر أمنا بالنسبة للإسرائيليين والفلسطينيين، برغم عدم الاستقرار في المنطقة.
وقد حصل جلالة الملك فيما يبدو على الدعم الذي كان يرجوه من الادارة الامريكية في هذا الشأن، خصوصا بعد نجاح الدبلوماسية الاردنية في كسر حالة الجمود في هذا الملف وفرض نفسها كلاعب أساسي قادر على تحريك الامور برغم غياب القوى العربية الفاعلة لانشغالات داخلية.
ومما لا شك فيه أن جلالة الملك يحاول استباق دخول أمريكا مرحلة الانكفاء على ذاتها بسبب استحقاق الانتخابات الرئاسية الامريكية. لذلك، فقد جعل الاسبوعين المقبلين بمثابة تحد زمني لانجاز شيء في هذا الملف قبل بدء هذا الماراثون الانتخابي.
ولا يخفى أن جلالة الملك هو خير من يقدم هذه الرؤية الواضحة نيابة عن العرب عموما، وعن الفلسطينيين. فاسرائيل تستغل انشغال أمريكا وأوروبا بمشاكلهما الداخلية وانهماك العرب بمتابعة تطورات الربيع العربي لتنفيذ مخططاتها الاجرامية في المناطق الفلسطينية. ولا يوجد صوت يتحدث عن عدالة القضية الفلسطينية أوضح من صوت الاردن.
الملف الثاني الذي طرحه الامريكان على أجندة لقاءاتهم بجلالة الملك كان ملف الاصلاحات السياسية في الاردن، الذي كان موقف الاردن حياله أيضا قويا وواثقا بفضل ما تحقق حتى الان من إصلاحات تعترف القوى السياسية المعارضة أنها كانت تمثل بالنسبة اليها طموحا قبل حلول «الربيع العربي».
وفيما يبدو فان ما يمكن تسميته بالنموذج الاردني قد راق للادارة الامريكية حيث أشاد رأسها عقب استقبال جلالة الملك يوم الثلاثاء الماضي بالجهود الإصلاحية التي يقودها جلالة الملك في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، معتبرا أن جلالة الملك استبق الاحداث في المنطقة لتلبية طموحات الشعب الاردني.
الولايات المتحدة التي أخذت على حين غرة بالتطورات السريعة في المنطقة ما تزال تحاول فهم هذه الاحداث وكيفية التعامل معها. وهنا فان الوصفة الخاصة التي يقدمها الأردن في إجراء إصلاح هادئ نموذج ملائم للدعم والتعميم حرصا على استقرار المنطقة وعودة الهدوء اليها. فالدول العربية التي شهدت ولا تزال تحولات جذرية عصفت بأنظمة حكم وأوقعت آلاف الضحايا في صفوف المدنيين لا يزال المشهد في بعضها مفتوحا على كل الاحتمالات.
الملف الثالث الذي تبادل الاردن والولايات المتحدة رؤيتهما حوله هو الملف السوري الذي يأخذ أشكالا أكثر تعقيدا مع مرور الوقت، ما يدفع المنطقة نحو أخطار عدة خصوصا مع زيادة تدهور الأوضاع في سوريا وخروجها عن السيطرة.
والاردن، الجار الاقرب لسوريا، معني بوضع حد للأزمة هناك، لكنه في الوقت ذاته يقف على حبل مشدود بين خيارات الأزمة السورية، ساعيا الى الموازنة بين الاجماع العربي والدولي حيال سوريا والسعي للحفاظ على المصالح المتشابكة التي ما زالت تدار في الجهة المقابلة من قبل النظام السوري.
ولعل المفارقة التي طرحها جلالة الملك بين شخص الرئيس السوري ونظامه أكبر دليل على محاولة الاردن الموازنة بين مصالحه مع سوريا وموقفه من الاحداث. وهنا كان جلالة الملك واضحا في تأكيد التزام الاردن بالموقف المشترك عربيا حيال هذا الملف.
وفي سياق متصل الى حد بعيد، أكد جلالة الملك على تحذيره من أن المواجهة بين الغرب وايران المصرة على إغلاق مضيق هرمز إذا ما نفذ الغرب وعيده بفرض مزيد من العقوبات عليها وأوقف صادراتها النفطية، لن تكون في صالح المنطقة.ومن هنا جاء تحذير جلالة الملك من مغبة اللجوء الى القوة لحل الخلاف بين الغرب وايران، مؤكدا أن الحوار وسيلة وحيدة لحل الخلافات.
الملف الرابع، المرتبط بالشأن المحلي، والذي تناولته زيارة جلالة الملك كان الوضع الاقتصادي للاردن والمنطقة والمساعدات الامريكية المرتقبة خلال هذا العام، حيث نجح جلالة الملك في إعادة تأكيد الادارة الامريكية على التزاماتها الاقتصادية نحو الاردن. وهو التزام مرتبط بالتفاهمات والمقاربات التي توصل اليها الجانبان (الامريكي-الاردني) في المحاور الثلاثة التي تناولتها الزيارة الملكية، حيث إن من مصلحة المنطقة والولايات المتحدة أن يتمكن الاردن من مجابهة الصعوبات التي تواجهه وان يستمر في النهج الاصلاحي الذي يتبعه.
وفي المحصلة فان زيارة جلالة الملك الى واشنطن مهمة للغاية لأنها تتيح الفرصة لتبادل الرأي حول العديد من الملفات المحلية والاقليمية الملتهبة والحساسة، ولأن الادارة الامريكية بحاجة لسماع صوت العقل والحكمة من بيت الخبرة الموثوقة في شؤون المنطقة والعالم، وهي مناسبة مواتية لتعزيز دور الأردن الريادي على صعيد الاصلاح في المنطقة.
ما يبعث على الارتياح في ختام زيارة جلالة الملك يكمن في ما حصل عليه الاردن من دعم متصل بثلاثة محاور من محاور المباحثات الاردنية الامريكية، وهي القضية الفلسطينية والاصلاحات الداخلية والمساعدات الاقتصادية، مع التوصل الى رؤية متقاربة في المحور الرابع المرتبط بالملف السوري كثير التعقيد ومتعدد التشعبات. وسواء نجحت الدبلوماسية الاردنية في إحداث اختراق في جبل الجليد الذي يفصل طرفي القضية الفلسطينية أو لم تنجح، فإن النجاح الجلي تمثل في قدرة الاردن على فرض نفسه كلاعب أساسي قادر على إدارة الكثير من ملفات المنطقة.