دار جدل كبير وساخن على مر العقود الخمسة للإحتلال الإسرائيلي الطويل الأجل، وما زال يثير موضوع مشاركة المقدسيين الفلسطينيين في الإنتخابات البدية لمجلس بلدية القدس المحتلة، بحجة أن حل مشاكل المقدسيين تكمن في مشاركتهم في تلك الإنتخابات، وتبؤهم المقاعد المستحقة لهم بل إن تحالفهم مع القوى الدينية غير الصهيونية يسهم في تحقيق الأغلبية، وبالتالي السيطرة على مقدرات المجلس البلدي موازنة وتخطيطا ولجانا وصرفا وإنفاقا. ويغدو المجلس البلدي تابعا من توابع المقدسيين وأداة من أدواتهم لتحسين أحوالهم ومنع هدم منازلهم.
طرح ساذج وبسيط وحلم نرجسي، ويدغدغ العواطف، ويمني النفس، ونظري في تقدير البعض إلى حد كبير، وينبىء بقرب حلول مشاكل القدس العربية المستعصية على الحل في إطار خيالي. فكرة بسيطة شريرة نرجسية، لكنها بتحليل بسيط تجرّ سلسلة من الأعمال التي تهدم الحق الفلسطيني المتعاقب والتاريخي، ، وبالمقابل تعترف بالإحتلال العسكري للقدس بشكل مباشر وغير مباشر وتقر بقانونية وجوده وسيادته. وكأنها تعترف بشرعية الضم الإسرائيلي الباطل للقدس وثماره اللامشروعة. ويقرّ هذا الطرح مقولة توحيد القدس الكاذبة بشطريها بكل توابعها. ويعترف أن القدس عاصمة دولة إسرائيل ودعوة الدول لإقامة سفارات فيها بعد مقاطعة طويلة وعدم شرعية. ويعترف بأن الفلسطينيين المقدسيين دخلوا إسرائيل عبر قانون الدخول لإسرائيل وهم أغراب في حين أنهم الشعب الأصلي ذوي الجذور، ولا يستحقون سوى وثائق إقامة تسحب منهم بمجرد إخلالهم بشروط الإقامة. ويسقط الحقوق السياسية للمقدسين الفلسطينيين وسيادتهم وعلى رأسها حقهم في تقرير المصير. ويتنازلون عن القرار 181 بخصوص تقسيم فلسطين وخلق وضع خاص للقدس تعارفوا عليه بالتدويل. وينفي القرارات الأممية العديدة الخاصة بالقدس سواء صدرت من مجلس الأمن، أو من الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو من محكمة العدل الدولية، أو من اليونسكو. ويقتضي النجاح في الإنتخابات البلدية وشغل المقعد البلدي ، حلف يمين الولاء للكيان الإسرائيلي. وستسقط الحجّة الفلسطينية القائلة برفض الإحتلال الإسرائيلي وما تبعه من حكم وضم بل سيحدث العكس القاضي بقبول الضم الإسرائيلي جهرا وضمنا. وسيفهم من المشاركة الرضائية في انتخابات بلدية القدس، قبول القانون الإسرائيلي مرجعا وحكما في منازعات المقدسيين المدنية، بل سيصل إلى التسليم بنفي السيادة الدينية على المسجد الأقصى وقبة الصخرة.
هذه الأمور يؤيدها ولا ينفيها المرشح الإسرائيلي سواء اكان يمينيا أو يساريا أو متدينا أو حريديا بل لا تعبر خياله ولا فكره، وبالتالي لا يجابه الإسرائيلي اليهودي اية مشكلة عقدية أو دينية أو وطنية في الترشح والمشاركة في انتخابات مجلس بلدية القدس. في حين أنها تشكل نقطة قد تصل مرتبة الخيانة الوطنية للفلسطيني المقدسي أو تشكل سبّة عار في جبينه، مما أدى إلى عزوف كثير من المقدسيين الفلسطينيين عن الولوج لهذا المستنقع، رغم تطلعهم المشروع لتحسين أوضاعهم وظروف حياتهم، على الصعيد الحضري والخدماتي والتعليمي والإجتماعي والإسكاني. وهذه الحجة هي المعزوفة التي تعزف عليها القائمة الإسلامية الموحدة في تحالفها مع أحزاب إسرائيلية من شتى الإتجاهات.
ربّ قائل من بعيد، لقد مضى على رفع هذه الشعارات المناهضة للإحتلال الإسرائيلي والضم الإسرائيلي قرابة خمسة عقود ونيف، ولم تجدِ نفعا، ولا أحد يتعاطى مع مشاكل المقدسيين الفلسطينيين العويصة، ولا أحد يصغي لمشاكلهم ويسعى لحلها بل تزداد تعقيدا وشدة، فكفانا شعارات، ولنحل مشاكلنا بايدينا ونخلع اشواكنا باصابعنا. وقد تستهوي هذه الفكرة القائلة بأن أهل مكة أدرى بشعابها، مقترنة بالضعف الفلسطيني الرسمي، والهزال العربي والإسلامي والدولي الرسمي، والصخب الإسرائيلي الرسمي والشعبي، المقدسي الفلسطيني المحبط من الجميع ويسمع جعجعة ولا يرى طحنا، بان يجرب لمرة واحدة على سبيل التغيير، فلعلّ هذه التجربة تأتي له بالخير العميم، وما يدريك. وفي النهاية سيكرر مقولة ما هي الخسارة التي سيخسرها بعد أن ضاعت فلسطين، وخسرت الأنظمة العربية كل شيء كما يقال، وينظّر له، وكأن السياسة حقل تجارب بدون مقدمات.
كلام معسول أو كلام ساذج أو كلام بريء أو كلام سامٌ بمعنى الكلمة لاستهواء أفئدة المقدسيين لاقتحام المجهول، أو قل مسحوق من مساحيق ماكس فاكتور لتجميل الوجه القبيح للإحتلال، وبخاصة أن نسبة المشاركين والمشاركات في انتخابات بلدية القدس المحتلة المتوالية على مرّ خمسة عقود كانت ضئيلة للغاية، وكانت تعبر تعبيرا جوهريا وحاسما وقاطعا عن رفض المقدسيين للتعامل مع الضم الإسرائيلي وأدواته المتمثلة في البلدية والوزارات المختلفة والمحاكم والمدارس والأجهزة خلافا لما أجبر على التعامل معه، وليس بإرادته الحرة الواعية المختارة.
ولو أسقطنا على سبيل الجدلية الحجج التي أوردناها سابقا لرفض فكرة المشاركة في الإنتخابات البلدية ترشيحا وانتخابا جملة وتفصيلا، واتخذنا مما يحدث مع شعبنا في الداخل قدوة ونموذجا سواء في الإنتخابات البلدية أو البرلمانية، فماذا نجد علّنا نقتدي ونتعلم من تجربتهم الطويلة المريرة الغنية. ويجب أن نشدد على التفريق بين الإنتخابات البلدية والبرلمانية، وأن لا ننسى للحظة واحدة أن القدس بجزئيها شرقا وغربا تحت الإحتلال. ويجب أن نشير إلى أن الرفض الأكبر ينصب على الإنتخابات البرلمانية، وليس البلدية، مع الفارق الجوهري مع القدس العربية. علما أن مواطني القدس العربية بموجب الضم الإسرائيلي هو مقيم وليس مواطنا إسرائيليا، وله فقط حق الإنتخاب البلدي دون البرلماني.
دون الدخول في الحيثيات والأسباب والحجج، نجد أن الداخل الفلسطيني منقسم على نفسه وغير متوحد في موضوع الإنتخابات إلى حد الخصومة، سواء من ناحية فكرية مبدئية أو من ناحية عملية إجرائية. ويبدو أن كل محاولات الجسر للخلافات حول الإنتخابات كانت عصيّة على المختلفين. ففئة تقاطع ترشيحا وانتخابا إلتزاما بعقيدتها وبمبدئها ، وفئة تشارك ترشيحا وانتخابا أملا في تقديم خدمة أفضل والإرتقاء بالمجتمع العربي الفلسطيني لغد أفضل. لذا تتفاوت النتائج وبخاصة في الإنتخابات البرلمانية . ويبدو أن جميع الحجج التي وردت في الداخل الفلسطيني جدلية ولها ما لها وعليها ما عليها. وقطعا كل فريق يزين ويتبنى من ألأفكار بما يرضي نهجه العملي. أو ليس ما ينطبق على الداخل الفلسطيني سينطبق على الجمهور المقدسي حتما؟ ولماذا سيكون المقدسي نمطا مختلفا عن شقيقه فلسطيني الداخل؟
حتما، ستجد فئات مقدسية تقاطع الإنتخابات ترشيحا ومشاركة بقوة وصلابة كما هو حاصل لهذا اليوم. وفئة ربما تتوجه للمشاركة ترشيحا وانتخابا، إن وجدت مباركة رسمية فلسطينية للمشاركة أو عدم اعتراض منها على المشاركة على الأقل، وفئة أخرى ممتنعة وتشاهد من بعد. وسيجر هذا الموضوع آثارا لا أول لها ولا آخر، حول مواضيع تتعلق بالسيادة الفلسطينية وعلاقتها مع السلطة التنفيذية ( الحكومة الإسرائيلية ) في رؤى وصور تحتاج سيناريوهات مختلفة.
قطعا، هذا الأمر لن يقتصر أثره على المقدسيين الفلسطينيين، بل سيرافقه جدل إسرائيلي حاد ساخن عنصري حزبي، وغير مستبعد قانونيا، في كيفية التعامل مع هذا المجهول. فالأمر لغاية اليوم لا يعدو ثرثرة أو قل جعجعة ليس لها ترجمة عملية على الأرض رغم المحاولات الفاشلة المتكررة. فكيف ستتصرف هذه القوى الإسرائيلية المتعصبة اليمينية مع القوة الفلسطينية المنتخبة، وكيف ستكشر عن أنيابها لمجرد دخول فئة من الجمهور الفلسطيني المقدسي معترك الإنتخابات؟ وهل الإسرائيليون من السذاجة أن يسلموا ويقبلوا باستيلاء المقدسيين الفلسطينيين على مقدرات (عاصمتهم )، وأن يتولوا التربية والتعليم والتخطيط والشوارع والرفاه والهدم والتعمير فيها، بينما يشكل شرقي القدس مصدرا ماليا تصرف منه على غرب القدس ولا ترصد في موازنتها سوى النزر اليسير للمقدسيين . فكل ناظر وعاقل يرى ويتحقق من التحسينات الحاصلة في غربي القدس، سواء على صعيد التخطيط والإسكان والشوارع والأرصفة والحضانات والمدارس والمعاهد، بينما يفتقر الجزء الشرقي لهذه الخدمات التي تزداد سوءا، وهي التي لم تشهد إقامة مؤسسة واحدة سوى الهدم المنهجي. بل إن المدن العربية المجاورة لشرقي القدس مثل البيرة ورام الله وبيت لحم، تفوق الجزء الشرقي في جميع القطاعات البلدية وتعيش رفاهية بالقياس مع القدس الشرقية.
لنفق من أحلام اليقظة ونفهم اللعبة والملهاة، فقد شكلت مدينة القدس مطمعا ومسرحا للغزاة والفاتحين من أمد طويل، والغزو الإسرائيلي ليس ببعيد عن ذلك، فخطة البلدية والحكومة حينما ضموا الجزء الشرقي كما رسمه خبراء الأمن والحكومة بعد حرب 67، وكما رسمها تيدي كوليك وأمير حيشن وأولمرت ونير بركات وأوري لوبيانسكي تقوم على إفراغ القدس العربية من مواطنيها الفلسطينيين وهذا يفسر كل إجراءاتهم التعسفية بما فيها وزارة الداخلية. فضلا عن أن القضاء الإسرائيلي والسلطة التنفيذية لا يعترف بالقانون الدولي كقانون سامٍ وواجب التنفيذ إذا تعارض مع القانون الإسرائيلي بل هم يرونه قانونا دونيا أقل درجة من القانون الإسرائيلي، وإلا فما معنى أن لا يطبق ميثاق منع التعذيب لعام 1983وميثاق الحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 الذي صادقت عليهما الحكومة الإسرائيلية.
يجب أن لا نغترّ وأن لا نفرح كثيرا بوصولنا لحوالي أربعين بالمائة من عدد سكان القدس مع أنه مصدر سعادة وقوة، فالتهجير القسري وقوانين الطوارىء والتهويد جاهزة للعمل الفوري، ولعل ما نشر وكشف عنه من مخططات جاهزة لفصل بعض مناطق شرقي القدس سوى واحدة أو جزءا من خطة احتياطية إذا تأثر المخطط الإسرائيلي لمدينة القدس وقديما قالوا الطريق إلى جهنم مرصوفة بالنوايا الحسنة!!!