يشهد العالم اليوم الضعف والوهن الذي بدأ يدب في أوصال قوة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية، بعد أن تخلخل تماسكها الداخلي بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها، جراء حروبها الصليبية الاستعمارية في أكثر من مكان في أنحاء العالم، وقد بدأت ملامح هذا الهزال تتشكل وتلوّن وجهها السياسي الشاحب في تصريحاتها المتخبطة إزاء الأحداث العربية الأخيرة، ولم تعد مواقفها الرسمية في هيئة الأمم المتحدة حاسمة وصلبة بما فيه الكفاية لتحقيق غاياتها، بالرغم من استمرار حصولها على الدعم والتأييد اللا متناهيين من قبل حلفائها الإستراتيجيين وعلى رأسهم بريطانيا وفرنسا وألمانيا.
نحن كدول عربية وكأنظمة عربية حاكمة بعيدون كل البعد عن فهم أبعاد وقواعد وكواليس الأحداث السياسية الجارية، والتي تشير بقوة وبجرأة وبوضوح إلى وشوك انتهاء عصر قوة القطب الواحد المتمثل في أمريكا، وهذا ما يدفعنا إلى الاستمرار في سياسة الانبطاح لهيمنة السي آي إيه والموساد على الشؤون الداخلية والقضايا المصيرية في منطقة الشرق الأوسط، بالرغم من أننا نتابع تفاصيل العهد الذهبي الذي يوشك على الانبلاج في فضاء العالم، إلا أننا كأنظمة حاكمة بلغ بنا الضعف والخوف والجبن والخنوع بحيث لا نريد أن نرى الفرص المتاحة لنا اليوم، والخيارات المتعددة والبدائل المكوّمة على رفوف الحاضر، حتى نتأهب لولوج عصر جديد وعالم اختلفت معطياته وتغيرت موازين القوى فيه، بشكل يمكّننا من تمزيق شرنقة الخنوع والضياع والانحطاط الذي عانت منه المنطقة العربية عقودا طويلة.
منيت اليابان بهزيمة نكراء في الحرب العالمية الثانية، وبالرغم من عدم وفرة الموارد الطبيعية في اليابان، إلا أنها اليوم ثالث قوة تجارية في العالم وثاني قوة صناعية دوليا، اعتمادا على الصناعات الثقيلة التي تنتجها من المواد الأولية التي تقوم باستيرادها، كذلك هزمت ألمانيا هزيمة ماحقة في الحرب المذكورة ذاتها، وهي اليوم تمتلك قوة اقتصادية تحتل المرتبة الأولى على مستوى أوروبا وتأتي في المرتبة الثالثة عالميا، بفضل قوة وجودة وتنوع صناعاتها وبنيتها التحتية، بالإضافة إلى التنظيم الرأسمالي الاجتماعي المتميز المتبع في الدولة الألمانية، تتميز كل من هاتين الدولتين بوجود إرادة حاكمة وإدارة حازمة وعزيمة شعبية وانتماء وطني، وخصوصية ثقافية وحضارية ما زال الشعبان متمسكين بها.
روسيا وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي استطاعت خلال العشرين سنة الماضية، أن تنهض بقوة وجرأة من جديد، وأن تحقق تقدما كبيرا وتخطو خطوات واسعة وحثيثة على طريق الإصلاح بالرغم من الإرث المثقل بالتحديات، لتعود روسيا كقوة سياسية ونفطية عظمى، وتحتل المركز الأول في صادرات السلاح العالمية، وتمكن بوتين ومستشاروه من إنعاش المؤسسة العسكرية الروسية وتحقيق الانتعاش للاقتصاد الروسي، لتحتل موسكو موقعا مركزيا ومحوريا في الحلبة الدولية الجديدة.
من ناحية أخرى خرجت إيران من حربها مع العراق منهكة ومنبوذة إقليميا ودوليا، إلا أنها استطاعت وبفضل الاعتماد على طاقاتها الوطنية الذاتية أن ترسم لنفسها سياسة داخلية وخارجية مستقلة عن القوى الأخرى، مما جعلها تواصل مسيرتها قدما دون الحاجة إلى مباركة واشنطن أو التطبيع مع تل أبيب، لتصبح اليوم ثالث قوة اقتصادية في منطقة الشرق الأوسط، بل لقد قامت شأنها شأن القوى العملاقة بتكوين تحالفات وأحلاف مختلفة أينما تقاطعت مصالحها وحيثما تشابكت أهدافها مع الآخرين.
الصين ووفق قواعد لعبة القوى الاقتصادية والعسكرية، ونظرا للنمو الاقتصادي والعسكري المتسارع فيها، تعد مرشحا قويا للعودة كقوة عظمى عالميا ومنافسا قويا لأمريكا، فهي اليوم أكبر قوة اقتصادية في شرق وجنوب شرق آسيا، ومن المتوقع أن تتفوق اقتصاديا على الولايات المتحدة الأمريكية في غضون الأعوام القليلة القادمة، حيث سيصل الناتج المحلي الصيني في عام 2015 إلى 12 تريليون دولار، وقد استطاعت نظرا لاستيعابها للمخاطر المحدقة بها من كل من أمريكا واليابان والهند، بناء علاقات دبلوماسية متبادلة وحذرة مع تلك الأطراف بشكل يحقق لها أهدافها ويساعدها على التطوير والاستمرار والمنافسة.
في تركيا استطاع حزب العدالة والتنمية الذي يقوده أردوغان أن يغيّر وجه تركيا، لينهض بالاقتصاد التركي ليصل إلى المرتبة السابعة عشر عالميا، ويقود دفة النمو في البلاد لتصل نسبته إلى 8,9% عام 2010، بالإضافة إلى العديد من التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، التي جعلت من تركيا طرفا مؤثرا وقوة دبلوماسية واقتصادية فاعلة على الصعيد الدولي.
في عالم السياسة أنا غير معنية بحب إيران أو صداقة تركيا أو تعاطف روسيا؛ لأن علاقات الدول السياسية قائمة على مصالح اقتصادية وروابط أمنية وتكتلات إستراتيجية إمبريالية، لا تمت بصلة إلى مشاعر الحب وأحاسيس الود والتعاطف، يكفيني وبناء على أحداث التاريخ أن أعلم أن المنطقة العربية بثرواتها النفطية وموقعها الاستراتيجي على الحدود مع إسرائيل، وما تشكله المنطقة بأسرها من سوق اقتصادية بل استهلاكية في الدرجة الأولى للمنتجات الأمريكية والأوروبية والصينية واليابانية والعالمية، تعد المنطقة محط أنظار دول العالم وبؤرة أطماعه، خاصة لكون هذه المنطقة بأنظمتها الحاكمة الحالية مشتتة ومشوّهة وضعيفة وخائرة القوى ومشلولة عسكريا واقتصاديا وسياسيا.
ما يدهشني حقا هو تشبث الأنظمة العربية بتلابيب أمريكا حتى وهي تحتضر، الأصوات المعارضة التي خرجت من حنجرتي موسكو وبكين إزاء الأزمة في سوريا، وبشأن فرض مزيدا من العقوبات على إيران بسبب برنامجها النووي، كذلك الموقف المتذبذب والمتناقض لإسطنبول حيال كل من إسرائيل وليبيا وسوريا، لابد من أن تثير هذه المواقف المختلفة والمدروسة والمرتكزة على قوة المصالح المتقاطعة بين التحالفات المختلفة، فضول المواطن والمسؤول والحاكم العربي تجاه الأبواب الجديدة التي من الممكن أن يتم طرقها، خاصة بعدما تجرعنا المرارة والذل وويلات الحروب والمهانة نتيجة الأبواب المشرعة على مصراعيها أمام المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة، المشروع الذي استنزفنا سياسيا واقتصاديا وثقافيا واخترقنا أمنيا وأخلاقيا.
لقد ذبحت الأنظمة العربية شعوبها وقضاياها المصيرية الكبرى قربانا للمشروع الإمبريالي الأمريكي الصهيوني، في سبيل الحفاظ على كراسي حكمها غير الشرعية، إلا أن أمريكا تخلت عن أتباعها عندما اقتضت مصالحها الاقتصادية والسياسية التضحية بعملائها، ومع ذلك نجد أن الأنظمة العربية الحاكمة الباقية وقوى المعارضة التي استلقت على الساحة العربية في أكثر من دولة باسم الثورة، ما زالت تراهن على أمريكا وتتمسح بأبواب البيت الأبيض.
ما نحتاج إليه وبشدة اليوم هو فكر سياسي ثوري وطني حقيقي وأصيل، فكر مناهض لأمريكا وللاستعمار الأوروبي، فكر يناضل من أجل مبادئه للانتصار للظلم والمظلومين على غرار نضال تشي غيفارا، لا فكرا يناضل من أجل سدة الحكم ومنصب وكرسي وحفنة من الدولارات، نحتاج إلى فكر واع يبحث في البدائل التي تحقق مصالحنا الوطنية والقومية لا مطامعنا الشخصية ومصالح القوى الكبرى، نحتاج إلى النظر حولنا بروح منفتحة وحذرة وفكر ثاقب وناقد وعقل يدبر ويخطط، لنطوي صفحات ملوثة وموصومة ومخزية، ونفتح صفحات تتطلع إلى بناء أحلاف جديدة وعلاقات مغايرة وقوى مهيمنة، نكون نحن فيها السادة والشركاء والقادة لا عبيدا وإماء وأتباعا.
نحن اليوم أمام خيارات متعددة ومتباينة، فإما الاستمرار في سياسة الانبطاح والاستسلام للقوى الإمبريالية العالمية بقيادة أمريكا المتهالكة، وإما أن تقودنا الأحداث الدولية وألعاب القوى السياسية إلى أن يبيعنا السيد الأمريكي إلى سيد إمبريالي آخر قد يكون صينيا أو إيرانيا أو روسيا أو تركيا، في سوق النخاسة الذي ارتضيناه وطنا وموطنا لنا في حياة الذل والتبعية، وإما أن ننهض ونخوض غمار الحياة بشرف وكرامة ونبدأ باستيعاب وبحث أوضاعنا السياسية والاقتصادية والأمنية الداخلية والخارجية، لنشكل أحلافا وتحالفات دولية وعالمية قائمة على شراكة حقيقية، وواعية لقواعد السياسة مع الأعداء، في عالم سياسي لا يعترف بالأصدقاء ولا يرحم الضعفاء ولا يحمي المغفلين.