مستذكرا حادثة انفجارات الفنادق في عمان ، وكانت استهدفت عائلات أردنية تقيم عرسا وادعا فاجأه الغدر، والإرهاب، وقد اهتزت البلاد على اثر النبأ المؤلم، وأصابتها المحنة، يقول محدثي الباشا محمد ماجد العيطان - رحمه الله- في جلسة مسائية جمعتني به في الهيئة الخيرية الهاشمية قبل أشهر من وفاته عن أن حادثة الفنادق وقعت، وكان الملك عبدالله خارج البلاد، فقطع زيارته، وعاد للأردن يقول : كنا فجرا واللواء سميح عصفورة مدير المخابرات العامة حينها بانتظار الملك الذي استقل السيارة بعد نزوله من الطائرة، وكان باديا على محيا جلالته التأثر العميق ، وقد لف وجهه بالشماغ الأحمر، وقاد جلالته السيارة التي أقلتنا من المطار في طريق العودة، يضيف فبادرت الملك بالقول " سيدي الحمد لله وأن كانت هذه الانفجارات قد وقعت"، قال فالتفت إلي جلالته مستوضحا، والى ذلك أجبته " أن هذا الحادث المؤلم سيجمع الأردنيين حول مليكهم"، ويستطرد لمست ان مخاوف الملك زالت، وتبدد قلقه
وهي قصة أستعيدها اليوم في كيفية تعاطي رجالات الدولة الكبار مع الشدائد، والأزمات، والمحن التي لا تكاد تخطأ مصير الأردن، وكيف يحولون اللحظات الحرجة إلى مناسبات وطنية للالتفاف حول العرش والملك، وقد أفضى العيطان إلى ربه كما أفضى من قبله الزعيم الوطني الكبير الرمز وصفي التل الذي كان "يحني لحيته بتراب الأردن"، وقد مضوا ولم يأخذوا من الأردن سوى مسحة من وفاء، وذكرى عطرة ترددها الأجيال بشغف، ودروس في الوطنية أعطوها لكل الأردنيين.
وقد كان رجالات الأردن محمل الشدائد، ويتعالون على المناصب التي يكرسونها في خدمة بلدهم، ومليكهم، وشعبهم، وليس في خدمة الأولاد، والأحفاد، والشلل، والنزوات ، وفي سبيل الإثراء من دم هذا الشعب الصابر.
وصفي التل مات مديونا للإقراض الزراعي، ولم يثر على حساب المساكين من أبناء شعبه، وهو يأتي في سياق شخصيات وطنية ملئت فضاء الأردن بالعطاء، وقد كرسوا حياتهم لشعبهم وتخفيف معاناته. كان وصفي كما يقول وزير الدولة للشؤون القانونية الأسبق المرحوم الدكتور خالد الزعبي - فضلا عن مشروعه الوطني والنهضوي الكبير- يتألم عندما يرى الجبال القاحلة، واليه يعود الفضل في الغابات التي تزين جبال الشمال، وكان ابن الأرض وقد روى البعض ممن زاروه أو الجأتهم الحاجة إلى بيته المشرع لمواطنيه أنهم وجدوه منهمكا – وكان يشغل رئيس وزراء الأردن آنذاك- في الحراثة على الفدان.
والى ذلك فيروي بعضهم عن قصة تلك المرأة الأردنية البائسة، والوزير السيادي، وقد ساقتها الحاجة إلى بيته، وكانت من إحدى محافظات الجنوب، يقولون أنها وصلت مع حلول المساء إلى بوابة المنزل طالبة النجدة لقضية ألمت بها، وكان باب بيته مغلقا، وظلت ترجو أن يفتح لها الباب ويمكنها الحرس من رؤية المسؤول الذي اعتقدت ان حل مشكلتها على يديه، ليمتنع الحرس عن فتح البوابة وفقا لأوامر مسبقة من معاليه شخصيا فتقضي ليلتها البائسة - في عز الشتاء- واقفة قبالة الباب المغلق، ثم عادت في اليوم التالي مكسورة الخاطر إلى حيث اعتمال مرجل القهر والغضب.
وهي ذاتها القصة تتكرر على أعتاب باب مكتب احد المحافظين الذي يجد أب لعدة معاقين الصعوبة البالغة في مقابلة عطوفته ، ومع تواصل الصراخ والمدافعة يتمكن من أن يجتاز مدير مكتبه ، ويصل إلى حيث ترى طلته البهية، وحال محاولته عرض قضيته – وهي تنحصر في رفض مساعدته من قبل مديرية التنمية الاجتماعية - ينفجر فيه المحافظ صارخا وقد ساءته طريقة دخوله للمكتب "ما الذي تريده"، فيخرج المسكين المستكين من اثر الصراخ استدعاءه حيث لم يكلف عطوفة المحافظ خاطره بالاطلاع عليه، يقول نظر إلي وأنا اعرضه بين يدي، وقال "الموضوع ليس عندي، ومع السلامة". ولربما أن عطوفته كان ينشغل بقضايا أكثر إلحاحا من متابعة شؤون مواطنيه.
وفي هذا الصدد اذكر حادثة جرت معي ، وقد اضطرتني بعض شؤوني أن ألج مكتب مسؤول امني ، وكان المكتب يحفل بعدة شخصيات تقوم بعرض العزيمة على عطوفته المنقول حديثا، بالمناسبة من كان يشدد على عزومته أكثر، ويخيره بين المنسف البلدي، والزرب نجح بعد ذلك في الانتخابات النيابية، وما لفت انتباهي أن الحضور في الجلسة، ويبدو أنهم زملاء تجمعهم صداقة حميمة كانوا يتندرون مع عطوفته بذكريات رحلة جمعتهم سويا إلى دولة شقيقة، وان احدهم كان يجالس صديقته، وكان الحديث ساخنا بينهما، وتطرق إلى النزوات، وقد تصادف أن هاتفه كان مفتوحا بالخطأ على زوجته في الأردن، وضجوا بالضحك مستذكرين مدى الإحراج الذي وقع فيه زميلهم على اثر الحادثة . الحضور وعطوفته الذي لم يكترث بوجود صحفي في المكتب واصل التندر بالحكاية فقاطعتهم مستأذنا بالانصراف ، وقد لاحظت أن وجودي لا لزوم له.
وأنا هنا لا اعرض بالمسؤولين الأردنيين، وأخضعهم إلى مقياس أخلاقي يختبر السلوك واعرف كما يعرف الأردنيون عن أطباعهم الكثير، وسمعت عن تصرفاتهم ما تأنف منه النفوس السليمة، وكأنما حرام على الأردن توليه المسؤولية لصاحب دين وخلق الا ما ندر، واعلم أن منهم من يسب الذات الإلهية، ويشتم الدين على مسمع جلسائه، ويظهر على التلفزيونات كقمة أخلاقية، ووصي على الحق والعدل.
ويعرف الأردنيون ربما أن حكومات بأكملها تشكلت على طاولة سكر، وعربدة، وأسندت الحقائب إلى فلان وعلان.
مسؤولون تنقطع صلتهم بهذا الشعب وعاداته وتقاليده، وهذا المسؤول الذي يتمتع براتب سمين، وسكرتيرة، ومدير مكتب، وامتيازات، ومياومات، وطابور من السيارات تخدم العائلة، ويستغل نفوذه في الإثراء، ويوظف السلطة في صالح الأبناء والشلل فكيف سيجد وقتا لشعبه.
غير أن هذه النوعيات المستحدثة هي التي أوغرت صدور الأردنيين، وكانت غريبة عن أطباع هذا الشعب، وقيمه، وعاداته، ولا يمكن أن ينسى الأردنيون ذلك الرئيس الذي ادخل كراتين الخمور إلى مبنى رئاسة الوزراء للاحتفال بعيد ميلاد احد وزرائه.
مسؤولون أغلقوا قلب هذا الشعب دون دولته، وقد ذاقت الناس مرارة استخدام المنصب والنفوذ في المتع، والاستيلاء على موارد الأردنيين، وتسخيرها في حياة الرفاهية لهم ولأبنائهم، وشللهم. هؤلاء لم يكونوا ليجدوا وقتا لمواطنيهم الذين شرعوا بالاعتصامات، والمظاهرات لإيصال صوتهم إلى آذان المسؤولين التي سدت عن معاناتهم.
وقد رتع غالبية المسؤولين المتأخرين من عمر الدولة الأردنية بأموال الشعب، ومارسوا رفاهيتهم ورفاهية طبقتهم على حساب الأردنيين، وأغلقوا أبوابهم أمام شعبهم فحدث أن تصدعت العلاقة التي تربط الأردنيين بنظامهم الملكي
هؤلاء يغيبون اليوم عن الأردن في عز المحنة، ولا يكاد يسمع لهم حسيسا بعد أن أقصوا الشعب عن النظام، والملك، ولعمري فهذا هو الحصاد السياسي المر، في ثنايا ربيع عربي لا يبقي ولا يذر.