من صنوف عقد الأحلاف بين العرب قديما غمس اليدين بجفنة مملوءة بالدم يتعاهدون حينها بالدفاع عن كل قوم وقبيلة في هذا الحلف مجتمعين، بعد تأدية مثل هذه المراسيم والطقوس. ومثال ذلك( لعقة الدم) التي جمعت بعض القبائل العربية بعد اختلافهم على رفع الحجر الأسود؛ فما كان من بني عبد الدار إلا أن قربوا جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا مع قبائل أخرى على الموت وأدخلوا أيديهم في تلك الجفنة فسمّوا بذلك. ولكن هناك صنفا آخر وهو غمس اليدين بالطّيب، ومثال هذا حلف يدعى بحلف( المطّيّبين) الذي عُقد بين بني عبد مناف وبني عبد الدار، عندما أحضرت عاتكة بنت عبد المطلب جفنة فيها طيب فغمسوا أيديهم فيها.
وبعد، لا نعرف حتى الآن على ما تحتويه بعض الصحون الطائرة، والذي نأمل أن يكون طيبا ، ورائحة زكية يتنسم عطره من عرق عمالنا وفلاحينا ومواطنينا في كافة وظائفهم، ويتسلل عبقه من قطرات عرق تتصبب على جبين فرسان الحق؛ عسكري أو جندي أو شرطي ساهر والآخرون يغطون في نومهم يشخرون ويسخرون. صحن طيب نغمس فيه أيادينا طاهرة لم تمسس بسوء نتعاهد على الدفاع عن البلد، كل البلد بأرواحنا، ونحافظ على أعراضنا من الدنس والتشرد، وعلى فلذات أكبادنا من الضياع وهم يلهثون وراء سراب صنعوه أو صُنِّع لهم.
افسحوا لنا نشق طريقا ثالثة؛ السائرون فيها كثر، والمؤمنون بها عديد؛ طريقا تأبى الظلم والتعدي على حقوق الآخرين، طاهرة من نتن الفاسدين والطحالب والطفيليات من جهة، وبعيدة البعد كله عن شرور الفتن، ودقّ الأسافين والأوتاد في ظهر هذا البلد وقوامه. طريقا ثالثة يؤمن السائرون فيها أن مدواة اليد وعلاجها أفضل من بترها، وأن إزالة الأشواك والنباتات المتسلقة من حول الشجرة أجدى من اجتثاثها، كما أنّ إصلاح البئر الذي منها نشرب ونرتوي أسلم من ردمها. وأن ملء الصّحن بما أحلّ الله من الطيبات أنفع من كسرها إلى شظايا موزعة هنا وهناك، لا تُجمع ولا تُرتق؛ فما هو إلا زجاج أو فخار لا يُجبر بعد كسر. ومن ينفخ في كير الفتنة وجرّ البلد إلى الاقتتال متأسيا بما دار ويدور في بعض بلدان ما يسمى الربيع العربي لا يختلف في مراميه وأهدافه وغاياته عن منظومة الفساد التي يدعى محاربتها، بل هما في ذات المركب، هؤلاء ينقبون في مقدمته، وهؤلاء ينقبون في مؤخرته، وبين هؤلاء وهؤلاء دعاة السبيل الثالثة، أولئك الصابرون على الأذى منهما معا، أولئك الذين يرون الوطن سماء تظلهم وأرضا تقلهم، ولا يرونه شيكا أو رصيدا أو مالا سائبا، وكذلك ليس سلما يتسلقون عليه لتحقيق مصالح إقليمية أو ما بعد الإقليمية.
لقد صبرنا على الفاسدين سنينا وأعواما، وعندما بدأنا نتلمس طريق الإصلاح ضاق صدرنا، وتسارعت مطالبنا حتى بلغت الشطط والانحراف والتعدي على البلد وأمنه ورجالاته الشرفاء. وكأن الإصلاح لا يتأتى إلا بقطع الطرقات، والانتقاص من هيبة الدولة ومؤسساتها الأمنية، والضرب بالحائط القضاء وإجراءاته، والتطاول على رأس النظام ومناوشة السقوف والأسقف سرّا وعلانية. واعتماد الشوارع والأزقة والميادين بدلا من الحوار. وفي الشارع يتسلل كل من لا يريد لهذا البلد خيرا، فيختلط بالأطهار ذوي النيات الطيبة من الأخيار، وفي الشارع رأينا أيضا من يبيت على أعتاب بعض السفارات لتقديم الخدمات الليلية يتصدر مسيرة هنا واعتصاما هناك. وعليه، فالشارع باستطاعته اقتلاع جميع الأشجار فيه خلال ساعة أو سويعة، ولكنه، الشارع، لا يستطيع غرسها ثانية إلا بعد سنين طويلة.
وبعد، إن جاء الإصلاح بالطيب والتروي والحفاظ على البلد ومواطنيه بدينهم وأعراضهم فأهلا به، ولكن إذا جاء بالدم والفرقة والفتنة وهروب الفاسدين بأحمالهم فتبا له؛ فما هذا هو الإصلاح الذي ننشده وخرجنا من أجله.