خطف الموت الروائي نجيب محفوظ قبل أن يُشاهد الوجه الآخر لروايته الرائعة ” اللص والكلاب”، بعد أن تحولت الى مسلسل متواصل في شتى أوطان الفساد العربي، فاللص تغير وأصبح يرتدي بدلة أنيقة وربطة عنق فاخرة أو عباءة من الحرير، واللص يحظى بدعم مطلق من رئيس التحرير ومن بائعة الهوى وحتى من الجمعيات الخيرية التي يتصدق عليها ببعض المال الذي سرق، ليطلقوا عليه الألقاب المتعددة فهو رجل الخير والمحسن الكبير ورجل الأعمال والخبير السياسي وجهبذ الإعلام وداعم الفن والرياضة، ليصبح موقعه الدائم بين صفوة المجتمع كونه المتحدث الرسمي وصاحب القول المُطاع والفكر الألمعي فهو صاحب المال، ووسط هذه الأكاذيب يتناسى الجميع مناداته بالوصف الأكثر تطابقاً له وهو ” حضرة اللص”.
اللص في بلاد الفساد صاحب صولات وجولات، وحَولَهُ عدد غير محدود من الجِراء التي تنبحُ على كل من يقترب من ظلِ اللص، وخلفه وأمامه تتتراكض عشرات الكلاب التي لا تتوقف عيونها عن مراقبة يد اللص لعله يُلقي لها بعظمة، وعندما تَحُطُ العظمةُ على الأرض وفي جيوبهم تتراقص الكلاب وتهز ذيلها فرحاً وطرباً وغزلاً، وتنبح بصوت ناعم حنون لتعبر على شكرها للص الذي وضع في فمها عظمة، فتطأطأ رأسها طائعة ذليلة كونها تعمل حسب نظرية ” طعمي الفم تستحي العين”، لذا تسير الكلاب خانعةً لسيدها ومتحفزة للإنقاض على من يحاول كشف حقيقة اللص ومحاسبته، فالكلاب تنبح في شتى المواقع والأماكن وبجميع لغات العالم تدافع عن سيدها، وتشهر مخالبها وتكشر عن أنيابها لإرهاب من يقترب من صاحب المال الوفير واللص الخبير.
والأسوء أن الكلاب لا تتوقف عن تقديم الولاء والطاعة وتبقى مستعدة، ولا تهتم لعجزها عن التفكير إن كان هذا اللص يسرق البلد والشعب، بل لا تهتم اذا كان اللص يتلقى دعماً خارجياً لدمار الوطن الذي يسكنون فيه ولا يسكن فيهم، ولا يهتز للكلاب جفن حتى لو عرض اللصوص وطنهم للبيع ونسائهم في سوق النخاسة، فعند الكلب كل شيء مُباح حتى زنا المحارم، ومن يصل الى هذه المرحلة الدونية يفعل كل شيء لأجل المنصب والدولار.
محفوظ عندما كتب رواية "اللص والكلاب”، لم يتوقع ولم يتخيل بأنه سيأتي كلاب ولصوص في دول الفساد أقذر ممن في روايته، بل وللحق ان لص محفوظ رجل صاحب قيم ومباديء مقارنةً بلصوص القرن الجديد، الذين لا يمتلكون ولو جزء يسير من الأخلاق والكرامة، أما كلاب محفوظ فهم رجال لهم مبدأ حتى إن كان دونياً وعاهرته مهذبة "حسب نظرية نابليون”، مقارنة بكلاب اليوم الذين يقتلون لأجل القتل ويرتشون لأجل كنز الأموال، وينبحون لأجل الولاء المُطلق ويمارسون الدعارة لأجل ذُلِ الآخرين فتتحول العاهرات إلى مجرد رقم في سِجلات عهرهم.
عذرا للكاتب المبدع نجيب محفوظ، لكن عصرنا هزم عصرك، عذراً فلصوص روايتك وكلابها لم يبيعوا الأوطان ولم يخونوها، فيما لصوص اليوم عرضوا أوطان أكلوا زادها وشربوا مائها في المزاد، ولص حكايتك وقع في يد الأمن فيما لصوص الأمة ينعمون بجميع وسائل الراحة والحرية، صدقاً كم أنت محظوظ يا محفوظ وأنت تهنأ بموتك، لأنك لو عشت في هذا العصر لكتبت رواية "أوطانٌ منهوبة.. وكلابٌ تحرس لصوصها”.