بعد أن قضيت 4 سنوات في منصب القائد الأعلى للقوات المتحالفة في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أصبحت أملك اليوم وجهة نظر واضحة نسبياً بخصوص قدرات الحلف الهائلة، وكذلك رؤية واقعية إزاء ما يبدو الحلف على استعداد لإنجازه. عندما دعا الرئيس دونالد ترمب، الأربعاء، إلى أن «يشارك (الناتو) على نحو أكبر في عملية الشرق الأوسط»، واجه كثيراً من السخرية التي يمكنني تفهم أسبابها.
ومع هذا، بدا لي هذا طلباً منطقياً تماماً، وإن كانت المفارقة تكمن في أنه يصدر عن رجل لطالما صوب سهامَ النقد للحلف خلال السنوات الأخيرة، ووصفه بأنه عديم الفائدة. وبالنظر إلى المرحلة المقبلة، ثمة سؤالان بسيطان يطرحان نفسيهما: ما الذي يمكن لـ«الناتو» فعله على صعيد العمليات؟ وهل يبدو من الممكن بالفعل أن يعزِّز الحلف وجوده في أكثر مناطق العالم اضطراباً؟
دعونا نبدأ بمسألة القدرات: هناك 29 دولة عضواً بالحلف، تتنوع بين القوة الأميركية العظمى ودولة شديدة الصغر مثل مونتينيغرو، بجانب 1950 من القوات الفاعلة. وبينما يبدو من الصائب تماماً الإقرار بأن غالبية الدول الأوروبية لا تلتزم بالهدف المعلن الخاص بإنفاق 2 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي على الدفاع، فإن مجمل إسهامها يظلّ ثاني أكبر موازنة دفاعية على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة. ومع تجميع قرابة 300 مليار دولار سنوياً، فإن الأوروبيين بذلك ينفقون أكثر من الصين (نحو 200 مليار دولار) وروسيا (70 مليار دولار) معاً. وبفضل هذا الإنفاق، تتوافر لدى الحلف بعض المعدات المتطورة للغاية. والملاحظ أن الأوروبيين يملكون سفناً حربية استثنائية في قدراتها (بما في ذلك حاملات طائرات وغواصات نووية)، وطائرات مقاتلة من الجيل الخامس (تشارك كثير من الدول في البرنامج الأميركي المشترك للطائرات الهجومية)، إضافة إلى قوات برية عالية الكفاءة، بينها قوات خاصة من الطراز الأول. وتتدفق سلسلة القيادة من أعلى، حيث مقر قيادة «الناتو» المتميز بمستوى مهني رفيع في مونس ببلجيكا، حيث عملت مع فريق عمل يتألف من بضعة آلاف من كل دولة عضو بالتحالف. ويملك «الناتو» عدداً من المقار الرئيسية والقواعد المهمة الأخرى في المملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا وهولندا وغيرها.
وعلى القدر ذاته من أهمية المعدات، تأتي أهمية الخبرة التي حصدتها الدول الأعضاء في الحلف خلال الحروب الطويلة في أفغانستان (شارك بها في نقطة الذروة 150 ألف جندي من الناتو) والعراق (نشرت به كثير من الدول الأعضاء في الحلف قوات تابعة لها، وما يزال الحلف يتولى إدارة مهمة تدريبية هناك) وليبيا (حيث شن الناتو عشرات الآلاف من الضربات الجوية، وفرض حصاراً بحرياً كاملاً) والبلقان (حيث نشر الحلف عشرات الآلاف من الجنود وقوات حفظ السلام على مدار العقدين الماضيين)، بجانب المشاركة في مهام لمكافحة القرصنة. وبصورة جماعية، يحظى مئات الآلاف من العسكريين الأوروبيين بخبرة كبيرة في الشرق الأوسط، براً وبحراً وجواً.
إذن السؤال هنا: ماذا يمكن للحلف عمله على أرض الواقع؟ مثلاً، يمكن للحلف من خلال استغلال قوته البحرية تشكيل «قوية بحرية ثابتة في الشرق الأوسط»، تقوم على نموذج أسراب السفن الحربية المنتشرة عبر المحيط الأطلسي والبحر المتوسط.
وفيما يتعلق بالطائرات، يمكن لـ«الناتو» نشر عدة أسراب من طائرات مقاتلة بالتناوب في قاعدة العديد بقطر. أيضاً، يملك «الناتو» هياكل قيادة وسيطرة محمولة جواً خاصة به، وطائرات «درون» طراز «إيه جي إس» (التي تعد نسخة مختلفة بعض الشيء من «غلوبال هوك» الأميركية)، مرابطة في قاعدة سيغونيلا في صقلية. علاوة على ذلك، يحظى خليفتي في منصب القائد الأعلى، الجنرال تود والترز، بمجموعات جاهزة من القوات البرية في انتظار أوامره، يمكنها تكميل القوات الأميركية. إضافة لما سبق، يملك «الناتو» قدرات متطورة في مجال الحروب السيبرانية.
وبوجه عام، يعتمد الردع والقدرة على تنفيذ عمليات عسكرية على أمرين: القدرة والموثوقية. وفيما يخص قدرات «الناتو»، فإنها تبدو واضحة، لكن التساؤل الحقيقي يدور حول مركز الجاذبية السياسية للحلف. والمؤكد أن الدفع بمزيد من القوات إلى خارج أوروبا نحو منطقة خطيرة لن يحظى بشعبية. وبالنظر إلى الانتقادات الماضية التي وجهها ترمب إلى الحلف، سيكون الموقف صعباً اليوم إذا ما تبدلت الآراء. إلا أن الأهم عن ذلك أنه لا توجد على ما يبدو استراتيجية متناغمة أمام الأوروبيين يمكنهم دعمها، بخلاف دعوة غامضة أطلقها الرئيس «للمشاركة بقدر أكبر». إذن، ما الممكن الآن؟
بداية، يبدو تنفيذ عملية انتشار بحرية الأمر الأكثر احتمالاً وعملية. ومن الممكن أن يمثل نشر مجموعة مؤلفة من 6 سفن، تضم فرقاطات ومدمرات، تحت قيادة أدميرال يحمل نجمة واحدة، حائط صد فاعل ضد أي هجمات إيرانية محتملة ضد خطوط الملاحة التجارية. وتتمثل خطوة منطقية أخرى في تعزيز مهمة التدريب التي يضطلع بها «الناتو» حالياً، والتي تركز على بناء قدرات لمكافحة الإرهاب بين الحلفاء والشركاء الإقليميين (بطبيعة الحال، يقوم هذا على افتراض أن الحكومة العراقية ستسمح لقوات «الناتو» بالبقاء).
أما الأمر الأكثر مخاطرة عن ذلك -وبالتالي أقل احتمالاً- فيدور حول نشر قوات خاصة تابعة لـ«الناتو»، في مواجهة فلول تنظيم داعش على طول الحدود العراقية - السورية. وتتمثل إمكانية أخرى في تعزيز التعاون مع الولايات المتحدة في إطار عمليات سيبرانية للتصدي لإيران، بحيث يجري تنفيذها من داخل مركز الأمن السيبراني التابع لـ«الناتو» في تالين بإستونيا.
ويتطلب كل ما سبق أن تتقدم الولايات المتحدة بطلبات رسمية واضحة إلى مجلس حلف شمال الأطلسي في بروكسل. والمؤكد أن بعض السفراء المميزين من أعضاء المجلس سيشعرون بالريبة تجاه الطلبات الأميركية، وسيشعر كثيرون منهم، مثلما قال ترمب بالفعل، بأنه قد حان الوقت لمغادرة «رمال الشرق الأوسط الملطخة بالدماء». وبوجه عام، يبدو أن غالبية الأوروبيين يشعرون بقلق أكبر بكثير إزاء ردع النشاطات الروسية داخل أوروبا عن «الخروج من حدود المنطقة»، تبعاً للمصطلحات الشائعة داخل «الناتو».
وبطبيعة الحال، تبقى هناك بعض الخيارات العملية التي يمكن للولايات المتحدة طرحها على الحلف لتجاوز الحواجز السياسية التي خلقها البيت الأبيض بنفسه، من خلال انتقاداته المستمرة لشركائه الأوروبيين. إلا أنه ينبغي أن نتوقع وجود كثير من مشاعر الريبة والشك على الطرف الآخر، ذلك أنه في الحرب والسياسة أنت تحصد ما تزرع.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
ومع هذا، بدا لي هذا طلباً منطقياً تماماً، وإن كانت المفارقة تكمن في أنه يصدر عن رجل لطالما صوب سهامَ النقد للحلف خلال السنوات الأخيرة، ووصفه بأنه عديم الفائدة. وبالنظر إلى المرحلة المقبلة، ثمة سؤالان بسيطان يطرحان نفسيهما: ما الذي يمكن لـ«الناتو» فعله على صعيد العمليات؟ وهل يبدو من الممكن بالفعل أن يعزِّز الحلف وجوده في أكثر مناطق العالم اضطراباً؟
دعونا نبدأ بمسألة القدرات: هناك 29 دولة عضواً بالحلف، تتنوع بين القوة الأميركية العظمى ودولة شديدة الصغر مثل مونتينيغرو، بجانب 1950 من القوات الفاعلة. وبينما يبدو من الصائب تماماً الإقرار بأن غالبية الدول الأوروبية لا تلتزم بالهدف المعلن الخاص بإنفاق 2 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي على الدفاع، فإن مجمل إسهامها يظلّ ثاني أكبر موازنة دفاعية على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة. ومع تجميع قرابة 300 مليار دولار سنوياً، فإن الأوروبيين بذلك ينفقون أكثر من الصين (نحو 200 مليار دولار) وروسيا (70 مليار دولار) معاً. وبفضل هذا الإنفاق، تتوافر لدى الحلف بعض المعدات المتطورة للغاية. والملاحظ أن الأوروبيين يملكون سفناً حربية استثنائية في قدراتها (بما في ذلك حاملات طائرات وغواصات نووية)، وطائرات مقاتلة من الجيل الخامس (تشارك كثير من الدول في البرنامج الأميركي المشترك للطائرات الهجومية)، إضافة إلى قوات برية عالية الكفاءة، بينها قوات خاصة من الطراز الأول. وتتدفق سلسلة القيادة من أعلى، حيث مقر قيادة «الناتو» المتميز بمستوى مهني رفيع في مونس ببلجيكا، حيث عملت مع فريق عمل يتألف من بضعة آلاف من كل دولة عضو بالتحالف. ويملك «الناتو» عدداً من المقار الرئيسية والقواعد المهمة الأخرى في المملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا وهولندا وغيرها.
وعلى القدر ذاته من أهمية المعدات، تأتي أهمية الخبرة التي حصدتها الدول الأعضاء في الحلف خلال الحروب الطويلة في أفغانستان (شارك بها في نقطة الذروة 150 ألف جندي من الناتو) والعراق (نشرت به كثير من الدول الأعضاء في الحلف قوات تابعة لها، وما يزال الحلف يتولى إدارة مهمة تدريبية هناك) وليبيا (حيث شن الناتو عشرات الآلاف من الضربات الجوية، وفرض حصاراً بحرياً كاملاً) والبلقان (حيث نشر الحلف عشرات الآلاف من الجنود وقوات حفظ السلام على مدار العقدين الماضيين)، بجانب المشاركة في مهام لمكافحة القرصنة. وبصورة جماعية، يحظى مئات الآلاف من العسكريين الأوروبيين بخبرة كبيرة في الشرق الأوسط، براً وبحراً وجواً.
إذن السؤال هنا: ماذا يمكن للحلف عمله على أرض الواقع؟ مثلاً، يمكن للحلف من خلال استغلال قوته البحرية تشكيل «قوية بحرية ثابتة في الشرق الأوسط»، تقوم على نموذج أسراب السفن الحربية المنتشرة عبر المحيط الأطلسي والبحر المتوسط.
وفيما يتعلق بالطائرات، يمكن لـ«الناتو» نشر عدة أسراب من طائرات مقاتلة بالتناوب في قاعدة العديد بقطر. أيضاً، يملك «الناتو» هياكل قيادة وسيطرة محمولة جواً خاصة به، وطائرات «درون» طراز «إيه جي إس» (التي تعد نسخة مختلفة بعض الشيء من «غلوبال هوك» الأميركية)، مرابطة في قاعدة سيغونيلا في صقلية. علاوة على ذلك، يحظى خليفتي في منصب القائد الأعلى، الجنرال تود والترز، بمجموعات جاهزة من القوات البرية في انتظار أوامره، يمكنها تكميل القوات الأميركية. إضافة لما سبق، يملك «الناتو» قدرات متطورة في مجال الحروب السيبرانية.
وبوجه عام، يعتمد الردع والقدرة على تنفيذ عمليات عسكرية على أمرين: القدرة والموثوقية. وفيما يخص قدرات «الناتو»، فإنها تبدو واضحة، لكن التساؤل الحقيقي يدور حول مركز الجاذبية السياسية للحلف. والمؤكد أن الدفع بمزيد من القوات إلى خارج أوروبا نحو منطقة خطيرة لن يحظى بشعبية. وبالنظر إلى الانتقادات الماضية التي وجهها ترمب إلى الحلف، سيكون الموقف صعباً اليوم إذا ما تبدلت الآراء. إلا أن الأهم عن ذلك أنه لا توجد على ما يبدو استراتيجية متناغمة أمام الأوروبيين يمكنهم دعمها، بخلاف دعوة غامضة أطلقها الرئيس «للمشاركة بقدر أكبر». إذن، ما الممكن الآن؟
بداية، يبدو تنفيذ عملية انتشار بحرية الأمر الأكثر احتمالاً وعملية. ومن الممكن أن يمثل نشر مجموعة مؤلفة من 6 سفن، تضم فرقاطات ومدمرات، تحت قيادة أدميرال يحمل نجمة واحدة، حائط صد فاعل ضد أي هجمات إيرانية محتملة ضد خطوط الملاحة التجارية. وتتمثل خطوة منطقية أخرى في تعزيز مهمة التدريب التي يضطلع بها «الناتو» حالياً، والتي تركز على بناء قدرات لمكافحة الإرهاب بين الحلفاء والشركاء الإقليميين (بطبيعة الحال، يقوم هذا على افتراض أن الحكومة العراقية ستسمح لقوات «الناتو» بالبقاء).
أما الأمر الأكثر مخاطرة عن ذلك -وبالتالي أقل احتمالاً- فيدور حول نشر قوات خاصة تابعة لـ«الناتو»، في مواجهة فلول تنظيم داعش على طول الحدود العراقية - السورية. وتتمثل إمكانية أخرى في تعزيز التعاون مع الولايات المتحدة في إطار عمليات سيبرانية للتصدي لإيران، بحيث يجري تنفيذها من داخل مركز الأمن السيبراني التابع لـ«الناتو» في تالين بإستونيا.
ويتطلب كل ما سبق أن تتقدم الولايات المتحدة بطلبات رسمية واضحة إلى مجلس حلف شمال الأطلسي في بروكسل. والمؤكد أن بعض السفراء المميزين من أعضاء المجلس سيشعرون بالريبة تجاه الطلبات الأميركية، وسيشعر كثيرون منهم، مثلما قال ترمب بالفعل، بأنه قد حان الوقت لمغادرة «رمال الشرق الأوسط الملطخة بالدماء». وبوجه عام، يبدو أن غالبية الأوروبيين يشعرون بقلق أكبر بكثير إزاء ردع النشاطات الروسية داخل أوروبا عن «الخروج من حدود المنطقة»، تبعاً للمصطلحات الشائعة داخل «الناتو».
وبطبيعة الحال، تبقى هناك بعض الخيارات العملية التي يمكن للولايات المتحدة طرحها على الحلف لتجاوز الحواجز السياسية التي خلقها البيت الأبيض بنفسه، من خلال انتقاداته المستمرة لشركائه الأوروبيين. إلا أنه ينبغي أن نتوقع وجود كثير من مشاعر الريبة والشك على الطرف الآخر، ذلك أنه في الحرب والسياسة أنت تحصد ما تزرع.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»