لا أحد يستطيع أن يبرر لماذا أعلت الأمم تاريخياً من شأن الفلاسفة والحكماء، ووقَّرتهم، أكثر من العمّال والصُنّاع، رغم أن الحكيم لا يقدّم للناس سوى رزمة من "الأقوال المأثورة”، فيما يقدّم "الخبّاز” مثلاً رزماً من الأرغفة يصطف كل الحكماء لشرائها!
فضلاً عن أنك لكي تتأمل هذه الحِكَم وتتمعنها ستحتاج الى الخبز قبل ذلك؛ فأنت تستطيع قضاء يومك بدون موعظة أو قول مأثور، لكنك لا تستطيع قضاءه من دون خبز، والطريف أيضاً أن "الخبّاز” قد يستغني عمره كُلّه عن "الحكيم” لكن الحكيم لن يستطيع أن يتدبر أمره يوماً واحداً من دون "الخَبّاز”!
ورغم المحاولات الدؤوبة التي بذلتها النخبة لسرقة أو استعارة "الأهمية الفائقة” من الرغيف وإسباغها على المعرفة، لكنّ التاريخ لم يسجّل بعد وفاة أي شخص بسبب ضحالة معرفته، لكنه كان شاهداً على وفاة الملايين بسبب الجوع والفاقة!
كما أن قلة المعرفة لم تصب أحداً بالأرق؛ "فأخ الجهالة في جهله ينعمُ”، كما قال الشاعر، وكم من الناس "البسطاء” قليلي الثقافة ينامون راضين منذ المغيب؛ فيما يتقلّب الجوعى وهم يشدّون على بطونهم ساخطين!
ذلك أن "الحكيم” الذي تمطّى طويلاً، حتى تمخَّض عن حكمته، لم يكن ليستطيع فعل ذلك لو كان جائعاً، أو لو كان يهجس بحاجاته، فالحكمة غالباً "معرفة مترفة” تتأتى للمتأملين، واختمارها البطيء يحتاج إلى قليل من البلادة!
فيما تحتاج الحياة الى الكثير من الإقدام، والمغامرة، وهو ما يتعذر فعله في حالة الحكمة البالغة؛ حيث كل شيء محسوبٌ بعناية، وخاضعٌ لدراسة الجدوى!
ليست هذه حتماً مرافعة تعلي من شأن الجهل، وتضعه في مقاربة مضطرة مع الجوع، لكنها محاولة لقراءة الأمر على وجهٍ آخر: لماذا ارتبط الإعلاء من شأن الثقافة بطبقيةٍ ما؟ ولماذا صنعت المعرفة، طبقتها الغاشمة، وهي في طريقها لاجتثاث التمييز كما زعمت؟!
منذ المتنبي وقصته مع خادمه، مروراً بصورة "الخادم” الملتبسة لدى شكسبير، التي لم تكن حاسمةً بما يكفي، وصولاً الى وظيفة الثقافة والمعرفة الآن، التي تكاد تكون أولى مهامها نقل "العارف” الى طبقة جديدة كترقية يستحقها!
لذلك لم توجد المعرفة "الرعوية”، التي تظلّ مقيمة في طبقتها الاجتماعية، وتمارس وظيفتها بالزي التقليدي للعامل أو الصانع، وتعبر عن انحيازها الكامل لجذرها الاجتماعي، من دون أن تقع في المخاتلة الشهيرة التي تتحدث عن "الطبقة” بوصفها ماضياً تم التخلص منه بنجاح!
أقصد تلك المعرفة البسيطة، المعرفة التي تشكلت من الطبقة وليس ضدها، من دون أن تظهر دائماً مدماة، وتغطيها القروح الطبقية، بوصفها معرفة معتدّة بنفسها ولا تخطط لأن تكون غيرها.
أقصد "معرفة الخباز”، التي لم يفكر أحد بشرائها، واكتفوا بالخبز!
رغم أنها معرفة تم إنضاجها طويلاً، واختبارها دائماً، على نحو لا يحدث لتلك المعرفة الرصينة التي احتفظ بها في الكتب كما يحدث لـ”المجمّدات”!
“المعرفة” و.. الخبز
أخبار البلد - اخبار البلد-