كان الأردن في طليعة الدول العربية التي تصدت لدراسة ظاهرة الفقر بعمق على أمل الافادة منها في وضع السياسات والبرامج للحد من هذه الظاهرة. الدراسة الأولى المتكاملة، والتي سميت في حينها "دراسة جيوب الفقر” أجريت في أواخر الثمانينيات، وأُعلنت نتائجها بالكامل بعد ذلك بفترة، وحددت من خلالها نسبة الفقر بالأردن، والتي تجاوزت العشرين بالمائة آنذاك، والتي جاءت على خلفية الأزمة الاقتصادية التي عانى منها الأردن في أواخر الثمانينيات. منذ ذلك الحين ودائرة الاحصاءات العامة تجري دراسات دورية من خلال مسح دخل ونفقات الأسرة، والذي يعتبر من أهم الدراسات التي تجريها الدائرة، ليس فقط لرصد تطور ظاهرة الفقر، وإنما لما توفره من معلومات حول أنماط الاستهلاك والدخل أيضا للطبقة الوسطى. كان هذا المسح يوفر بيانات مهمة ومصدرا موثوقا للباحثين لدراسة الظواهر والأبعاد المرتبطة بالظروف المعيشية للمواطنين الأردنيين وتطورها.
أعلنت دائرة الاحصاءات العامة قبل أكثر من أسبوع بعض المعلومات حول الفقر، وخاصة نسبة الفقر العام والفقر المدقع، والتي أثارت لغطاً كبيراً على الإعلام الاجتماعي.
لا نشك بمقدرة وكفاءة دائرة الاحصاءات العامة بهذا المجال أو غيره، فهي متميزة بين نظرائها العرب، ولكن مع ذلك لا نستطيع إلا أن نبدي بعض الملاحظات التي تحتاج لتوضيح ومراجعة حول هذه الدراسة، وتلك التي سبقتها بهذا المجال.
لم تعلن الدائرة خط الفقر الذي تم على أساسه احتساب نسبة الفقر بالأردن، ولم تعلق أيضاً عن كيفية احتسابه. كذلك لم يتم الإعلان أو الإفصاح عن النتائج التفصيلية لهذه الدراسة، وخاصة عن خطوط الفقر بالمحافظات والمناطق والألوية التي يتم تسميتها بالمناطق الأقل حظاً.
هذه المعلومات ليست مهمة فقط للأكاديميين والباحثين، ولكنها مهمة لصناع القرار، والتي تعتبر ضرورية لتقييم سياسات مكافحة الفقر، وأيضا لتطوير برامج وسياسات وخطط لمجابهتها مستقبلا.
نفس الشيء تقريباً حصل بالدراسة التي أجريت العام 2014، والتي لم تنشر ايضا، وآخر دراسة تم نشرها بشكل مفصل هي تلك التي أجريت في العام 2010، والتي تعتبر غير صالحة لأية استخلاصات حول الظاهرة حالياً، وهذا يعني أنه لا توجد معلومات مفصلة عن هذه الظاهرة المغلقة منذ عشر سنوات تقريباً.
هناك تفسيران لا ثالث لهما بذلك: الأول تقني، ويعني أن هناك مشاكل منهجية في إجراءات الدراسة والتي تجعل الإفصاح عن تفاصيلها إشكالياً. والثاني سياسي، والذي يرتبط بالتفاصيل الموجودة في الدراسة والتي تخشى الحكومة من ردة الفعل السياسية إذا تم الإعلان عنها. وايهما كان السبب، فهو قرار خاطئ من وجهة نظري، بدون ترجيح أي من الأسباب والمبررات التي ذكرتها.
لقد كان من واجب وزارة التخطيط والحكومة اتخاذ الإجراء المناسب إذا كانت المشكلة فنية وامتلاك الجرأة الكافية للإعلان عن النتائج مهما كانت صعبة، لأن الشفافية والمصارحة يجب أن تكون أساس العلاقة بين الحكومة والشعب. بغياب الشفافية تتعمق أزمة الثقة بين الحكومة والناس، وهذا يؤدي الى شلل في قدرة الحكومة على تنفيذ برامجها وخططها.
دراسة نفقات ودخل الأسرة التي تعتمد عليها الحكومة في تحديد خط الفقر ونسبه يجب أن تكون مدخلاً اساسياً في خطة الحكومة لمعالجة هذه المشكلة الخطرة، ويجب أن يتم على أساسه وضع الخطط والاستراتيجيات لمكافحتها، والتي يجب أن تكون معكوسة في موازنة الحكومة التي سيتم تقديمها للبرلمان قريبا.
لا ندري من هي الجهات التي اطلعت على نتائج هذه الدراسة، سواء كانت الحكومة أو من خارجها مثل صندوق النقد والبنك الدولي وبعض مؤسسات الأمم المتحدة، والتي تصمم خططها على أساسها، ولكن الأكيد أن الباحثين الأردنيين لن يتمكنوا من الاطلاع على تفاصيلها. وبذلك، تحرم الحكومة البلد من الاستفادة من خبرائها في عشرات الدراسات التي يمكن أن تنبثق عن هذا المسح، وتحرم الأكاديميين والباحثين الأردنيين من تطوير قدراتهم وكفاءتهم في دراسة هذه الظاهرة وأبعادها.
الفقر ظاهرة عالمية منتشرة في أغلب دول العالم، ولكن المعرفة تشكل الأساس والمنطق في معالجتها ومعالجة آثارها، فكيف يمكن أن يتم ذلك إذا بقيت هذه الدراسات حبيسة أدراج وزارة التخطيط أو الاحصاءات العامة.
لا يعقل بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما على إجراء أول دراسة شاملة حول الفقر في الأردن أن لا يتم الإعلان عن النتائج التفصيلية للدراسة الحالية أو التي سبقتها في العام 2014 ، ولا اعتقد بوجود أسباب مقنعة لذلك. إنه لمن المؤسف بأنه لدينا تخمة في الدراسات وفقر في المعلومات.
دراسة الفقر وفقر المعلومات
أخبار البلد - اخبار البلد-