جاءَ في السيرة لابن هشام أنَّ كعبَ بن أسد زعيم يهود بني قريظة لمّا عَزَمَ المسلمونَ بقيادة الرسول – صلى الله عليه وسلم – على غزوِهم لنقضهم العهدَ معه في وقعةِ الخندق، عَرَضَ على قومه خياراتٍ ثلاثةً: إمّا أنْ يُسلِموا ويدخلوا في دينه، إذْ هو كما في كتبهم صادقٌ ونبيٌّ مرسَل، وإمّا أنْ يَقْتُلُوا أولادَهم ونساءَهم، فإذا انتصرَ المسلمونَ عليهم لم يكنْ وراءَهم بين يَدَيْ محمّد ما يخشَوْنَ عليه، وإذا انتصروا هم فإنَّ النساءَ كثيرٌ والتوالد كائن، وإمّا أنْ يُفاجِئوهم بالإغارة عليهم ليلةَ السبت، وهم يظنُّونَهم ممتنعينَ فيه عن القيامِ بأيِّ عملٍ والحربُ خدعة. غيرَ أنَّ اليهودَ لم يُجيبوه إلى أيٍّ من هذه الخيارات، متعلِّلينَ بعدمِ خروجهم على ما تقول التوراة، وبأنّه لا خيرَ في الحياة بعدَ فقدِ الأهل والولد، وبأنّهم غيرُ مستعدِّينَ لمخالفة توجيهات دينهم في السبت. وحينها أدركَ أنّهم مهزومون أمام محمّد وجنده لا محالة، فقال لهم كلمته المشهورة - وقد أخذَ منه الغيظُ عليهم كُلَّ مأخذٍ -: ويلكم ما كنتم يوماً حازِمينَ ولا فيكم رجل رشيد، وقد أسلمتم بأيديكم طواعيةً لسيوف عدوِّكم، أو هكذا!!
أقول هذا اليومَ، ونحن نواجَهُ بخطرٍ صهيوني يهودي ماسوني ماحق يستهدف منّا الأرضَ والعِرضَ والمقدسات والتاريخ في هجمةٍ احتلاليةٍ كاسحةٍ، وغارةٍ استيطانيةٍ قاصمةٍ، وغزوةٍ وحشيةٍ مفترسةٍ، تسيرُ كُلّها على مخطَّطٍ مرسومٍ وعلى خَطٍّ معلومٍ وهدفٍ محدَّد، منذُ قرنٍ ونيِّفٍ من الزمان، إنْ لم يكنْ منذ مئات السنين أو آلافها، لا تَحيد عنه أو تُخادع نفسَها فيه، وقد عانَى منهم المسلمونَ الأمرَّيْن منذ عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن بعده حتّى اليوم. غيرَ أنَّ المسلمين كانوا آنذاك إلى بدايات القرن المنصرم، واعينَ لمخطّطات هؤلاء الأعداء الأخابث، وعندهم من عميق الإيمان وعظيمِ الهمّة وفائقِ الجرأة ما يردُّونَ به كيدهم إلى نحورهم، حتى إذا جاء هذا العصر الذي أعرضَ فيه المسلمون عن دينهم وعياً وتمسُّكاً وعملاً، قال هؤلاء الغُزاة لبعضهم بعضاً: طابَ لكمُ المبيت في ديار العرب والمسلمين، فأقيموا واربَعوا وابْنوا وعَلُّوا!!
لقد جاءَ اليهودُ إلى فلسطين أو جِيءَ بهم تحت شعار ديني وهو الرجوع إلى أرض الميعاد في ظِلالِ حِراب المستعمرين وتخاذل العرب والمسلمين، ومن ثَمَّ راحوا يُنشِئونَ المزارعَ الجماعية ويتدرَّبون على حمل السلاح برعاية الانتداب البريطاني، ويُهاجِرونَ إلى فلسطين بطرقٍ خفية ومعلومة، ويُطالبونَ بالتقسيمِ. وعندما أُقِرَّ ثاروا على القسمةِ وزحفوا على حِصّة العرب كما في قرار الأُمَم المتّحدة، ثُمَّ دخلوا الحربَ وهم على استعدادٍ، والعربُ مُفكَّكو الأوصال ضِعاف القُوى مُفرَّقو الكلمة، وطالبوا بالهُدنة ثُمَّ خرقوها أكثرَ من مرّة. وهم حسب مخطّطهم يريدونَ المزيدَ ويقفزون فوق الحدود بشكل تدريجي خطوةً خطوةً ليحقِّقوا هدفهم المرصود الذي يسعَوْن إليه بكُلِّ جِدٍّ واجتهاد، مُواصِلينَ الليلَ بالنهارِ: (وطنكِ يا إسرائيل من الفرات إلى النيل) لا يحيدونَ عنه مقدارَ شعرةٍ، ويُعدُّون العُدَّة لتحقيقه بكُلَّ ما يستطيعون من إمكانيات واستعانة بقُوى محلّية وعالمية وإفساد ذِمَمٍ وتملُّصٍ من قراراتٍ يتّخذها ما يُسمَّى المجتمعَ الدوليّ.
لقد خطّطوا وأعدُّوا، انطلاقاً من تعاليم توراتهم مع أنّها مزوّرة وباطِلة. أما نحن العربَ – فيالفجيعتاه – ونحن نرى زحفهم الظاهر وسيرَهم المتواصل وعُلوهم الظالم، لم نقابلْ ذلك إلاّ بالإعراض عن قرآننا العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي يقول لنا: (وأعِدُّوا لَهُمْ ما استعطتُمْ من قوّةٍ ومن رِباطِ الخيلِ، تُرْهِبونَ بِهِ عدوَّ اللهِ وعدوَّكُمْ، وآخرينَ من دونِهِمْ لا تعلمونَهُمْ)، فتركنا الإعداد وانشغلْنا بالمهاترات مع بعضنا بعضاً، ولاسيّما على مستوى القيادات، وتنافسْنا على الكراسيّ مع أنها بيدِ الأجنبيّ، فلم نصحُ إلاّ على هديرِ مجنزراتهم وصرير دبّاباتهم وأزيز طائراتهم تجوسُ أرضنا وسماءَنا فتُضيف إلى ما قضمتْه في السابق أصقاعاً جديدةً تُعادل أضعافَ ما قضمتْه سالِفاً. كُلُّ ذلك ونحن غارُّونَ في سُباتٍ عميق ولاهون بالانقلابات ومستسلمونَ لجعجعات الإذاعات، وسُكارَى بأصوات الساقطينَ من المغنِّين والمغنيات!!
عجباً لنا، بل ذِلَّةً وخيبةً، لم ننتصرْ في معركة واحدة مع عدوّنا، وهو يحتلُّ ديارنا، بل كانت له وحدَه هذه الانتصارات. ومع ذلك جنحنا إلى مسالمته وموادعته أنظمةً ومنظّماتٍ على إثرِ هزيمته الكاسِحة لنا في حرب حزيران 1967م، فكانت معاهداتُ كامب ديفد أواخر السبعينيات من القرن الفائت وأوسلو ومدريد ووادي عربة بداية التسعينيات منه، على أنْ تكونَ لأبناء فلسطين في ديار آبائهم وأجدادهم دولة مع دولة اليهود على حدود ما كان في الرابع من حزيران المذكور، وذلك بضمان دول الغرب وعلى رأسها أمريكا وهي التي جَلَبَتْ أُمُّها بريطانيا، اليهودَ إلى بلادنا ومن ثَمَّ دعمتَاها بكُلِّ ما أُوتِيَتا من قوةٍ، وبضمان المجتمع الدولي الذي هو في الحقيقة من ابتداع الغرب واليهود الذين يتحكّمون بقراراته إلى أبعد حدٍّ. أجل، رضينا بسلطة منزوعة القُوَى من مالٍ أو سلاحٍ أو حريةٍ أو استقلالٍ في قولٍ أو عملٍ أو حركةٍ، بل كانت هذه السُّلطة لا وجودَ لها إلاّ على أقلِّ نسبةٍ من أرض فلسطين بعد أنْ زرَعَها اليهود بالمستوطنات والطرق الالتفافية والجُدُر الفاصلة والسيطرة على المعابر جوّاً وبحراً وبرّاً، إذْ لم يعد للسلطة الفلسطينية فيها إلاّ التسلُّط على أبناء جنسها ولاسيّما رجال المقاومة بالتنسيق الأمني مع اليهود وتسليم رقاب المجاهدين إلى جلاّديهم!!
أجل، عجباً لنا نحنُ العربَ أنظمةً ومنظّماتٍ، لا نتوقَّف لحظةً للمراجعة والتقويم لمسيرتنا وواقعنا. قَبِلْنا بالسلام مع اليهود وهو سلامُ المهزومينَ، وسميَّناه سلامَ الشجعان ضحكاً منّا على أنفسنا ومخادعةً لشعوبنا وخيانةً لأوطاننا. ومع ذلك نُطالب بحقِّنا في فلسطين ونحن في الوقت ذاته نعترفُ بدولة (إسرائيل)، وندخل معهم بسلطةٍ هي في خدمتهم وضدُّ أهلها وقضيّتها، إذْ تُلْقِي سلاحها قبلَ تحرير بلادها، والذي كانت طالما تُعلِن أنّها لن تتخلّى عنه إلاّ بالنصرِ الحاسِم، ومن ثَمَّ تخلَّتْ دول العرب عن معاونة أبناء فلسطين على تحريرها، وألقَتْ بكُلِّ ذلك على عاتق منظّمة التحرير هزيلة الإمكانيات، وأنّها الممثِّل الشرعي والوحيد للقضية وأبنائها. وفي ذلك ولا شكّ دَقُّ آخر مسمار في نعش القضية الفلسطينية كما قالَه بعض العارفينَ بخبايا السياسةِ ودهاليزها ومآلاتها!!
وأقولُ الساعةَ للمسؤولينَ في السلطة الفلسطينية خاصّةً: أجيبونا حضراتكم، وقد تخلَّيْتم عن سلاح المقاومة قبلَ أنْ تُحرِّروا البلد، وتُطالبونَ مَنْ بيده السلاح بالتخلّي عنه، وتقومون بمحاربة مَنْ يحمله وتسليمه إلى السلطات اليهودية تحت مسمّى التعاون الأمني بينكم وبينهم. وها أنتم تتفاوَضون معهم منذ ثلاثينَ عاماً على الترتيب لدولةٍ لكم مستقلّة على حدود ما قبل حرب 1967م، ومع كُلِّ تلك التنازلات وهاتيكَ المفاوضات لم تُسفِرْ أيٌّ منها لكم عن مثقال ذرّة من إيجابية في الوصول إلى ما تطمحونَ إليه أو تطمعونَ فيه. أجل، أقول: إذا كان الأمرُ كذلك، فلماذا الاستمرار بهذا العبث وتضييع الجهود في تلك المهازِل والضحك على الذات ومخادعة النفس؟! أَلَمْ تقرؤوا – ويلكم – إنْ كنتم مسلمينَ، قولَه تعالى عن اليهود وأعوانهم: (إنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي لا مواثيقَ ولا عهودَ يلتزمونَ بها، وأنّهم: (كُلَّما عاهَدُوا عهداً نبَذَهُ فريقٌ منهُمْ)، وأنّهم: (ويَحْلِفونَ على الكَذِبِ وهُمْ يعلَمُونَ)، أَوَلَمْ تقرؤوا السيرة إنْ كنتم كذلك من أنسال العرب الكرام، وكيفَ أنَّ هؤلاء اليهود لم يلتزموا يوماً بما عاهدوا عليه الرسول عليه الصلاة والسلام؟!
وأقول، عطفاً على ما سبقَ - إذا كان وجودكم في أرض 1967م بلا سلطة حقيقية وهي منطقةٌ مُزِّقَتْ تمزيقاً -: أليسَ لكم في واقعها المَهِين، وفي إنكار اليهود عليكم حقَّ العودة الذي تُطالبونَ به، ورفضهم تطبيقَ القرارات الدولية بشأن القضية عامّةً، وإصدارهم قانونَ الدولة العبرية وأنّه لا وُجودَ في فلسطين إلاّ لليهود شعباً له الكلمة الأُولى والأخيرة في شأن الأرضِ، وتقرير زعيم دولة الاستكبار العالمي (ترامب) أنَّ القدسَ موحّدة عاصمةٌ لـ (إسرائيل)، وتقرير زعيمهم نتنياهو ضَمَّ الأغوار إلى كيانه الغاصب غيرَ عابِئٍ باعتراض الفلسطينيين والأردنيين في هذا الشأن وغيره، وأخيراً وليسَ آخِراً قرار أمريكا على لسان وزير خارجيتها (بومبيو) بشرعية المستوطنات، وأنّها لا غُبارَ فيها أو عليها. نعم، أقول - مع كُلِّ هذه القرارات وتلك التجاوزات، ومن قبلُ ومن بعدُ اعتداءات اليهود على الأقصى الشريف وخنق الأسرى في سجون الاحتلال، وتتابع الغارات الوحشية على غزّة –: أيها العرب وأيتها السلطة: ماذا بَقِيَ لنا من فلسطين حتّى نقبلَ بحُكمٍ لا حول لنا فيه ولا طَوْلَ بعد كُلِّ هذه القوانين الجائرة والإقتطاعات السالخة، وأُردِف: ويحكم بل ويلكم: أينَ ذهبت عقولكم وأين كرامتكم، أين بقية من دينٍ في نفوسكم، أَلاَ تتقونَ الله في شعوبكم وأوطانكم وتاريخكم وأجيالكم؟!
وختاماً: هل لي أنْ أعرِضَ عليكم وأنتم أصحاب العَدَدِ والعُدَد والجيوش المجحفلة والإمكانيات الهائلة، إزاءَ كُلِّ هذا التغوّل اليهودي الغاشم، وذاكَ الاحتلال الإسرائيلي البغيض وتلك الهجمة الاستيطانية الشرسة: إحدى ثلاث خِلال، حلاًّ لمشكلتنا مع اليهود الغاصبينَ كي نرجعَ بشيءٍ من العزّة أو نعودَ بقليلٍ من ماء الوجه، فإمّا أنْ تقفوا بجانب المقاومة الفلسطينية الباسلة مقاتلينَ، فإنْ لم تكنْ فدعمها بما تستطيعون من مالٍ وسلاحٍ ودعاءٍ ولو بالسرّ، فإنْ لم تكن هذه ولا تلك، فعلى الأقلّ أنْ تكفُّوا شرَّكم عنهم وتُخلُّوا بينهم وبين عدوِّهم يُصارِعونَه وهم كفيلونَ بالنيل منه بصدمه ولطمه، فإنْ لم تفعلوا أيّاً من هذه الثلاث فأَجِدُني مُضطرّاً – آسِفاً وحزيناً، حدْباً على مصلحة أمّتي وقضيتها المشرّفة - أنْ أقول لكم كما قال كعبُ بن أسد: ويلَكم ليسَ فيكم منذ أنْ كنتم حازمٌ أو عاقلٌ أو صاحبُ همّةٍ وعزيمة أو دينٍ ووطنية ولا حولَ ولا قوّة إلاّ بالله، أو أقول لكم كما قال ذلك المؤمن لقومه المتباعدين عن الحق المعادينَ لأصحابه: (فستذكرونَ ما أقول لكم، وأُفوِّضُ أمري إلى اللهِ، إنَّ اللهَ بصيرٌ بالعبادِ) ولله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ. ويومئذٍ يفرحُ المؤمنونَ بطاعة اللهِ ونصرِه، ويخزَى المنافقونَ بخذلان الأُمّة، وقد يندمونَ، ولكن لاتَ ساعةَ مندمٍ، اللهمَّ اشهَدْ اللهمَّ إنِّي بلَّغتُ.
أقول هذا اليومَ، ونحن نواجَهُ بخطرٍ صهيوني يهودي ماسوني ماحق يستهدف منّا الأرضَ والعِرضَ والمقدسات والتاريخ في هجمةٍ احتلاليةٍ كاسحةٍ، وغارةٍ استيطانيةٍ قاصمةٍ، وغزوةٍ وحشيةٍ مفترسةٍ، تسيرُ كُلّها على مخطَّطٍ مرسومٍ وعلى خَطٍّ معلومٍ وهدفٍ محدَّد، منذُ قرنٍ ونيِّفٍ من الزمان، إنْ لم يكنْ منذ مئات السنين أو آلافها، لا تَحيد عنه أو تُخادع نفسَها فيه، وقد عانَى منهم المسلمونَ الأمرَّيْن منذ عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن بعده حتّى اليوم. غيرَ أنَّ المسلمين كانوا آنذاك إلى بدايات القرن المنصرم، واعينَ لمخطّطات هؤلاء الأعداء الأخابث، وعندهم من عميق الإيمان وعظيمِ الهمّة وفائقِ الجرأة ما يردُّونَ به كيدهم إلى نحورهم، حتى إذا جاء هذا العصر الذي أعرضَ فيه المسلمون عن دينهم وعياً وتمسُّكاً وعملاً، قال هؤلاء الغُزاة لبعضهم بعضاً: طابَ لكمُ المبيت في ديار العرب والمسلمين، فأقيموا واربَعوا وابْنوا وعَلُّوا!!
لقد جاءَ اليهودُ إلى فلسطين أو جِيءَ بهم تحت شعار ديني وهو الرجوع إلى أرض الميعاد في ظِلالِ حِراب المستعمرين وتخاذل العرب والمسلمين، ومن ثَمَّ راحوا يُنشِئونَ المزارعَ الجماعية ويتدرَّبون على حمل السلاح برعاية الانتداب البريطاني، ويُهاجِرونَ إلى فلسطين بطرقٍ خفية ومعلومة، ويُطالبونَ بالتقسيمِ. وعندما أُقِرَّ ثاروا على القسمةِ وزحفوا على حِصّة العرب كما في قرار الأُمَم المتّحدة، ثُمَّ دخلوا الحربَ وهم على استعدادٍ، والعربُ مُفكَّكو الأوصال ضِعاف القُوى مُفرَّقو الكلمة، وطالبوا بالهُدنة ثُمَّ خرقوها أكثرَ من مرّة. وهم حسب مخطّطهم يريدونَ المزيدَ ويقفزون فوق الحدود بشكل تدريجي خطوةً خطوةً ليحقِّقوا هدفهم المرصود الذي يسعَوْن إليه بكُلِّ جِدٍّ واجتهاد، مُواصِلينَ الليلَ بالنهارِ: (وطنكِ يا إسرائيل من الفرات إلى النيل) لا يحيدونَ عنه مقدارَ شعرةٍ، ويُعدُّون العُدَّة لتحقيقه بكُلَّ ما يستطيعون من إمكانيات واستعانة بقُوى محلّية وعالمية وإفساد ذِمَمٍ وتملُّصٍ من قراراتٍ يتّخذها ما يُسمَّى المجتمعَ الدوليّ.
لقد خطّطوا وأعدُّوا، انطلاقاً من تعاليم توراتهم مع أنّها مزوّرة وباطِلة. أما نحن العربَ – فيالفجيعتاه – ونحن نرى زحفهم الظاهر وسيرَهم المتواصل وعُلوهم الظالم، لم نقابلْ ذلك إلاّ بالإعراض عن قرآننا العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي يقول لنا: (وأعِدُّوا لَهُمْ ما استعطتُمْ من قوّةٍ ومن رِباطِ الخيلِ، تُرْهِبونَ بِهِ عدوَّ اللهِ وعدوَّكُمْ، وآخرينَ من دونِهِمْ لا تعلمونَهُمْ)، فتركنا الإعداد وانشغلْنا بالمهاترات مع بعضنا بعضاً، ولاسيّما على مستوى القيادات، وتنافسْنا على الكراسيّ مع أنها بيدِ الأجنبيّ، فلم نصحُ إلاّ على هديرِ مجنزراتهم وصرير دبّاباتهم وأزيز طائراتهم تجوسُ أرضنا وسماءَنا فتُضيف إلى ما قضمتْه في السابق أصقاعاً جديدةً تُعادل أضعافَ ما قضمتْه سالِفاً. كُلُّ ذلك ونحن غارُّونَ في سُباتٍ عميق ولاهون بالانقلابات ومستسلمونَ لجعجعات الإذاعات، وسُكارَى بأصوات الساقطينَ من المغنِّين والمغنيات!!
عجباً لنا، بل ذِلَّةً وخيبةً، لم ننتصرْ في معركة واحدة مع عدوّنا، وهو يحتلُّ ديارنا، بل كانت له وحدَه هذه الانتصارات. ومع ذلك جنحنا إلى مسالمته وموادعته أنظمةً ومنظّماتٍ على إثرِ هزيمته الكاسِحة لنا في حرب حزيران 1967م، فكانت معاهداتُ كامب ديفد أواخر السبعينيات من القرن الفائت وأوسلو ومدريد ووادي عربة بداية التسعينيات منه، على أنْ تكونَ لأبناء فلسطين في ديار آبائهم وأجدادهم دولة مع دولة اليهود على حدود ما كان في الرابع من حزيران المذكور، وذلك بضمان دول الغرب وعلى رأسها أمريكا وهي التي جَلَبَتْ أُمُّها بريطانيا، اليهودَ إلى بلادنا ومن ثَمَّ دعمتَاها بكُلِّ ما أُوتِيَتا من قوةٍ، وبضمان المجتمع الدولي الذي هو في الحقيقة من ابتداع الغرب واليهود الذين يتحكّمون بقراراته إلى أبعد حدٍّ. أجل، رضينا بسلطة منزوعة القُوَى من مالٍ أو سلاحٍ أو حريةٍ أو استقلالٍ في قولٍ أو عملٍ أو حركةٍ، بل كانت هذه السُّلطة لا وجودَ لها إلاّ على أقلِّ نسبةٍ من أرض فلسطين بعد أنْ زرَعَها اليهود بالمستوطنات والطرق الالتفافية والجُدُر الفاصلة والسيطرة على المعابر جوّاً وبحراً وبرّاً، إذْ لم يعد للسلطة الفلسطينية فيها إلاّ التسلُّط على أبناء جنسها ولاسيّما رجال المقاومة بالتنسيق الأمني مع اليهود وتسليم رقاب المجاهدين إلى جلاّديهم!!
أجل، عجباً لنا نحنُ العربَ أنظمةً ومنظّماتٍ، لا نتوقَّف لحظةً للمراجعة والتقويم لمسيرتنا وواقعنا. قَبِلْنا بالسلام مع اليهود وهو سلامُ المهزومينَ، وسميَّناه سلامَ الشجعان ضحكاً منّا على أنفسنا ومخادعةً لشعوبنا وخيانةً لأوطاننا. ومع ذلك نُطالب بحقِّنا في فلسطين ونحن في الوقت ذاته نعترفُ بدولة (إسرائيل)، وندخل معهم بسلطةٍ هي في خدمتهم وضدُّ أهلها وقضيّتها، إذْ تُلْقِي سلاحها قبلَ تحرير بلادها، والذي كانت طالما تُعلِن أنّها لن تتخلّى عنه إلاّ بالنصرِ الحاسِم، ومن ثَمَّ تخلَّتْ دول العرب عن معاونة أبناء فلسطين على تحريرها، وألقَتْ بكُلِّ ذلك على عاتق منظّمة التحرير هزيلة الإمكانيات، وأنّها الممثِّل الشرعي والوحيد للقضية وأبنائها. وفي ذلك ولا شكّ دَقُّ آخر مسمار في نعش القضية الفلسطينية كما قالَه بعض العارفينَ بخبايا السياسةِ ودهاليزها ومآلاتها!!
وأقولُ الساعةَ للمسؤولينَ في السلطة الفلسطينية خاصّةً: أجيبونا حضراتكم، وقد تخلَّيْتم عن سلاح المقاومة قبلَ أنْ تُحرِّروا البلد، وتُطالبونَ مَنْ بيده السلاح بالتخلّي عنه، وتقومون بمحاربة مَنْ يحمله وتسليمه إلى السلطات اليهودية تحت مسمّى التعاون الأمني بينكم وبينهم. وها أنتم تتفاوَضون معهم منذ ثلاثينَ عاماً على الترتيب لدولةٍ لكم مستقلّة على حدود ما قبل حرب 1967م، ومع كُلِّ تلك التنازلات وهاتيكَ المفاوضات لم تُسفِرْ أيٌّ منها لكم عن مثقال ذرّة من إيجابية في الوصول إلى ما تطمحونَ إليه أو تطمعونَ فيه. أجل، أقول: إذا كان الأمرُ كذلك، فلماذا الاستمرار بهذا العبث وتضييع الجهود في تلك المهازِل والضحك على الذات ومخادعة النفس؟! أَلَمْ تقرؤوا – ويلكم – إنْ كنتم مسلمينَ، قولَه تعالى عن اليهود وأعوانهم: (إنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي لا مواثيقَ ولا عهودَ يلتزمونَ بها، وأنّهم: (كُلَّما عاهَدُوا عهداً نبَذَهُ فريقٌ منهُمْ)، وأنّهم: (ويَحْلِفونَ على الكَذِبِ وهُمْ يعلَمُونَ)، أَوَلَمْ تقرؤوا السيرة إنْ كنتم كذلك من أنسال العرب الكرام، وكيفَ أنَّ هؤلاء اليهود لم يلتزموا يوماً بما عاهدوا عليه الرسول عليه الصلاة والسلام؟!
وأقول، عطفاً على ما سبقَ - إذا كان وجودكم في أرض 1967م بلا سلطة حقيقية وهي منطقةٌ مُزِّقَتْ تمزيقاً -: أليسَ لكم في واقعها المَهِين، وفي إنكار اليهود عليكم حقَّ العودة الذي تُطالبونَ به، ورفضهم تطبيقَ القرارات الدولية بشأن القضية عامّةً، وإصدارهم قانونَ الدولة العبرية وأنّه لا وُجودَ في فلسطين إلاّ لليهود شعباً له الكلمة الأُولى والأخيرة في شأن الأرضِ، وتقرير زعيم دولة الاستكبار العالمي (ترامب) أنَّ القدسَ موحّدة عاصمةٌ لـ (إسرائيل)، وتقرير زعيمهم نتنياهو ضَمَّ الأغوار إلى كيانه الغاصب غيرَ عابِئٍ باعتراض الفلسطينيين والأردنيين في هذا الشأن وغيره، وأخيراً وليسَ آخِراً قرار أمريكا على لسان وزير خارجيتها (بومبيو) بشرعية المستوطنات، وأنّها لا غُبارَ فيها أو عليها. نعم، أقول - مع كُلِّ هذه القرارات وتلك التجاوزات، ومن قبلُ ومن بعدُ اعتداءات اليهود على الأقصى الشريف وخنق الأسرى في سجون الاحتلال، وتتابع الغارات الوحشية على غزّة –: أيها العرب وأيتها السلطة: ماذا بَقِيَ لنا من فلسطين حتّى نقبلَ بحُكمٍ لا حول لنا فيه ولا طَوْلَ بعد كُلِّ هذه القوانين الجائرة والإقتطاعات السالخة، وأُردِف: ويحكم بل ويلكم: أينَ ذهبت عقولكم وأين كرامتكم، أين بقية من دينٍ في نفوسكم، أَلاَ تتقونَ الله في شعوبكم وأوطانكم وتاريخكم وأجيالكم؟!
وختاماً: هل لي أنْ أعرِضَ عليكم وأنتم أصحاب العَدَدِ والعُدَد والجيوش المجحفلة والإمكانيات الهائلة، إزاءَ كُلِّ هذا التغوّل اليهودي الغاشم، وذاكَ الاحتلال الإسرائيلي البغيض وتلك الهجمة الاستيطانية الشرسة: إحدى ثلاث خِلال، حلاًّ لمشكلتنا مع اليهود الغاصبينَ كي نرجعَ بشيءٍ من العزّة أو نعودَ بقليلٍ من ماء الوجه، فإمّا أنْ تقفوا بجانب المقاومة الفلسطينية الباسلة مقاتلينَ، فإنْ لم تكنْ فدعمها بما تستطيعون من مالٍ وسلاحٍ ودعاءٍ ولو بالسرّ، فإنْ لم تكن هذه ولا تلك، فعلى الأقلّ أنْ تكفُّوا شرَّكم عنهم وتُخلُّوا بينهم وبين عدوِّهم يُصارِعونَه وهم كفيلونَ بالنيل منه بصدمه ولطمه، فإنْ لم تفعلوا أيّاً من هذه الثلاث فأَجِدُني مُضطرّاً – آسِفاً وحزيناً، حدْباً على مصلحة أمّتي وقضيتها المشرّفة - أنْ أقول لكم كما قال كعبُ بن أسد: ويلَكم ليسَ فيكم منذ أنْ كنتم حازمٌ أو عاقلٌ أو صاحبُ همّةٍ وعزيمة أو دينٍ ووطنية ولا حولَ ولا قوّة إلاّ بالله، أو أقول لكم كما قال ذلك المؤمن لقومه المتباعدين عن الحق المعادينَ لأصحابه: (فستذكرونَ ما أقول لكم، وأُفوِّضُ أمري إلى اللهِ، إنَّ اللهَ بصيرٌ بالعبادِ) ولله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ. ويومئذٍ يفرحُ المؤمنونَ بطاعة اللهِ ونصرِه، ويخزَى المنافقونَ بخذلان الأُمّة، وقد يندمونَ، ولكن لاتَ ساعةَ مندمٍ، اللهمَّ اشهَدْ اللهمَّ إنِّي بلَّغتُ.